من الكتب التي أحضرتها مؤخرًا من بيروت، أنهيت قراءة كتاب "هزيمة الغرب"، وإليكم الآتي:

الانهيار الصامت: كيف تقتل الحضارة نفسها بنفسها

هزيمة الغرب
(La Défaite de l'Occident) للمؤرخ الفرنسي إيمانويل تود

في مشهدٍ مأساويٍّ يذكّر بانهيار الإمبراطوريات العظيمة، يشهد عالمنا اليوم ظاهرةً نادرة: الانهيار الصامت الذي يحلّق كغيومٍ سوداء فوق الحضارة الغربية. إنها اللحظة التي تتحول فيها القيم التي قامت عليها المجتمعات إلى شبحٍ بلا روح، وتتحول الأمم إلى كياناتٍ بلا ضمير. في كتابه «هزيمة الغرب» (La Défaite de l'Occident)، يشرح المؤرخ الفرنسي إيمانويل تود جثة الغرب على طاولة التشريح الديموغرافي والفكري، كاشفًا كيف تنتحر الحضارة من الداخل.

المرض الخفي: من القيم إلى طقوس الزومبي

لقد خرج الغرب منتصرًا من الحرب الباردة، لكنه دخل في دوامة الانتحار الحضاري. البروتستانتية التي بنت أمريكا، والكاثوليكية التي شكّلت أوروبا، تدخل عصر الزومبي كما يسميه تود: طقوس بلا روح، ومظاهر بلا جوهر. إنها المراحل الثلاث لموت القيم:

1. من الدين النشط الذي يبني الحضارات.

2. إلى المسخ الزومبي الذي يتحرك بلا وعي.

3. إلى العدمية المحضة، حيث يغيب الضمير الجمعي.

أعراض الانهيار: عندما تتحول المجتمعات إلى وحدات استهلاك
النيوليبرالية لم تكن سوى الابن الطبيعي لهذا الفراغ القيمي. النتيجة؟ أمريكا التي قادت العالم تعاني من انهيارٍ صحي وأخلاقي: انخفاض متوسط العمر، وارتفاع وفيات الأطفال، كأن الجسد الغربي يرفض الاستمرار دون روح. لقد تحولت المجتمعات إلى ساحات قتالٍ اقتصادية، والإنسان إلى آلة استهلاك.

التعليق...

شرق آسيا: الانضباط الجماعي في مواجهة الفردانية المنحلّة

بينما يغرق الغرب في فردانيته، تقدّم الصين واليابان وكوريا نموذجًا مغايرًا. إنه انضباطٌ جماعي لا يُلغي الفرد، بل يدمجه في نسيجٍ مجتمعيٍّ متماسك. في بكين وطوكيو وسيول، ترى المجتمعات تبني المستقبل بثقة، متمسكةً بهويتها كمرتكزٍ ثابت في عالمٍ مضطرب. إنهم يتبنون التكنولوجيا بشراهة، لكنهم يرفضون الانحدار إلى متاهة العدمية الغربية.

أوروبا: الفشل السياسي والبحث عن كبش فداء

أما في الجانب الآخر، فكبار أوروبا — ألمانيا وفرنسا وبريطانيا — تمشي كالمشلولين، الفاقدين للذاكرة والبوصلة. لقد انكفأت على نفسها في فشلها السياسي، وأصبحت تغلق حدودها وأفكارها. من تحت أنقاض هذا الفشل، يبدأ وحش اليمين المتطرف والخطاب الشعبوي في الظهور، معلِّقًا أزماته الداخلية على كبش فداء اسمه «المهاجر». إنها محاولةٌ يائسة من مجتمعاتٍ شيخةٍ لتعثُر على هوية، فتعود إلى نزعاتٍ قبلية كانت قد تركتها وراءها منذ قرون.

الانهيار الحضاري الحقيقي لا يبدأ بالغزوات الخارجية، بل ينبع من الداخل؛ عندما تتحول القيم إلى شعاراتٍ فارغة، ويغيب الضمير الاجتماعي، وتفقد الحياة معناها. العنف والعدمية ليسا حلًّا، كما تُظهر تجربة زهران ممداني وسمير زيتوني وتعيدان لنا البعد الاخلاقي والقيم الانسانية.

هذا الكتاب ليس نعيًا للغرب، بل تحذيرًا من أن العالم بأسره قد يدفع ثمن انهيار مركزه. إنه يذكّرنا بأن الحضارات تُبنى بالقيم وتُهدَم بفقدانها، وأن الانهيار الصامت يبدأ عندما ننسى أن التقدّم الحقيقي هو تقدم الإنسان قبل تقدّم الآلة.