١ـ ارتبطت طفولتي منذ سنوات الطفولة أي ما قبل الدراسة وفي خضم أيام الاستعمار البريطاني بمجالسة الشحاري صاحب الدكان المقابل لمنزلنا  وكان يدعى عبدالله باسندوة..
ورغم سني الصغير كنت أجلس في مساء كل عشية أمام باب دكانه عندما كان يستريح بعد يوم مجهد ، وكونتُ مع هذا الشحاري صداقة قوامها إبن يتيم مع أب يكن للجميع إحتراماً وصار في ظلال هذه العلاقة يخصني بالكلام الحضرمي الجميل والحٍكم والزوامل الحضرمية والنصائح الأبوية الخالصة.
مرت علينا حربان أهليتان في العام 1967م واختار الجيران للشحاري عبدالله أحد البيوت ليسكن فيها لعلاقته الحسنة والطيبة بالحارة التي تجاوزت مفهوم الشحاري بالزبائن، واستمرت هذه العلاقة منذ الستينات حتى الثمانينات
حين تفرق الشحاري إلى دكان آخر.
وعبدالله الشحاري هو الذي أملى علي هذا الزامل الذي كان معناه يتجاوز سني المراهق:
لاتاخذ النخلة ومعها جرين
لا تأخذن إلا فريدية على ماء طين.


٢- وحتى لا يأخذني الحديث عن عبدالله الشحاري، كان محفوظ عمر هو الآخر مدكناً أو شحارياً، بالتسمية العدنية لكل صاحب دكان بيع مواد غذائية ، وكان صديقاً لعبدالله الشحاري، وهو أي محفوظ عمر في دكان بركن بحافة الهاشمي في قسم بي 9  قبالة مسجد الهاشمي تماماً،  بينما دكان الشحاري عبدالله وبيتنا في ركني قسم بي11 في مدينة الشيخ عثمان في العاصمة عدن .
بعد عشية كل يوم يأتي الشحاري محفوظ عمر إلى دكان عبدالله يتسامر معه بالحديث المقتضب والرزين ويجلسان على أحد جواني الأرز أو الدقيق يتبادلان الحديث بلهجة حضرمية قح، أفهم منها القليل وأستفيد منها الكثير.
وكان محفوظ عمر يحترم وجودي معهما في هذا الحديث اليومي ويبادلني الحديث بود بالغ .
وكنت في بعض الأحيان أذهب إلى دكان محفوظ أشتري منه حاجات قد لا تكون متوفرة في دكان عبدالله،وكان يستقبلني بقبول غامر أعجز عن تفسيره سوى ربما ما يسره الشحاري عبدالله عني وعن صفاتي وأخلاقي وتميزي عن سائر الأطفال.
محفوظ عمر، كما بدا لي، رجل حضرمي رزين الطبع، قليل الحديث ، مهندم الثياب،  قصير القامة،  ممتلئ ، ذو ابتسامة واسعة تظهر أسنانه على الدوام، وتعلو عينيه نظارة زجاجية سميكة تعكس عين الشمس إذا سقطت على زجاجتيهما .
واذا سلمت بحقيقة لماذا بقي عبدالله الشحاري في حارتنا كل هذا العمر  بأمانته وانفتاح علاقته الإنسانية مع الزبائن ،فاني أتصور  محفوظ عمر كان على ذات المسلك والعلاقة الإنسانية المستمرة والعيش المشترك مع الناس.
٣ـ لكن مستجداً جديداً طرأ على علاقتي بالوالد محفوظ هو ارتباط خالي المرحوم محمد أحمد دين ، والد الكاتب القصصي الراحل كمال الدين محمد، بالمدكن محفوظ في علاقة تبدو أكبر بين زبون وبائع .
والغريب في الأمر أن خالي محمد كان يسكن في المنصورة ولكنه يأخذ (راشنه) الشهري من دكان محفوظ من حافة الهاشمي في الشيخ عثمان وليس من غيره أو من دكان قريب من مسكنه، وتطورت هذه العلاقة (الزبائنية) إلى طور أعلى من بائع ومشتر إلى صداقة حقيقية..فما سر هذه العلاقة؟!
كان خالي يُصنف بأنه أكبر من درجة ممرض وأدنى من درجة دكتور، وكان مسؤولاً عن عيادة عمال مصافي عدن، وهذه الصفة جعلت من خالي بالنسبة لمحفوظ أشبه بدكتور  شخصي له، وربما كان يموله بأدوية لا أعلم كنهها، ولكن العلاقة بينهما أبعد من ذلك تتعلق بجانب إنساني كان يجمع خالي محمد بمحفوظ. 
كان محفوظ عمر إذا قابلني يواجهني بالسؤال عن خالي محمد ويلح في السؤال عن أحواله، وكان خالي إذ يزور أخته (أمي) الله يرحمها كل يوم خميس، لايفوت أن يذهب إلى دكان محفوظ  يزورصديقه المدكن محفوظ ويأخذمؤنته
 منه إذا تطلب الأمر ..وكانت هذه الحال قائمة حتى حال الزمن بينهما ومات خالي الله يرحمه  بعدها وانقطعت أخبار محفوظ عمر بعد رحيله عن الدكان في حافة الهاشمي.
٤ـ ما كان يلفت إنتباهي دون أن أستفيد من هذه الحالة، أنني إذا ذهبت إلى دكان محفوظ للشراء أجده في المخزن الداخلي متأبطاً شيئاً يشبه الدفتر أو الكتاب، ولم أكن أعرف أن محفوظ عمر شخصية كانت أكبر من مدكن مهتم بالبيع والشراء مثل المدكن عبدالله الشحاري عندنا، وسأصل إلى هذه المعلومة في لا حق هذا المقال.
والملحوظة الثانية أن محفوظ عمر لم اسمع منه اسمه الكامل ملحقاً ب (بحاح) ولو أني عرفت منه هذا اللقب لكنت وطدت التواصل معه ، خاصة وأن الاستاذ محمد عمر بحاح مدير تحرير صحيفة ( ١٤ اكتوبر) الأسبق كان له الفضل في دخولي عالم الصحافة،ولكان لأحاديثنا شؤون وشجون عن أخيه محمد عمر بحاح وتأثيره على شخصيتي على المدى البعيد.
٥ ـ عندما كتب الأستاذ القدير محمد عمر بحاح ذات مقال سابق  عن أخيه الأكبر واسمه محفوظ عمر بحاح، ذكر فيه أنه كان (شحارياً) أو مدكناً في دكان يقع في حافة الهاشمي وذكر فيه الصفات والملامح والسكنى التي تنطبق على محفوظ عمر  المدكن الذي أعرفه وعايشت معه سني طفولتي مع الشحاري عبدالله باسندوة، وأخيراً صداقته مع خالي محمد دين.
  تواصلت  في الحال مع الأستاذ محمد عمر بحاح أسأله بشغف عماكتبه في مقالته عن أخيه : هل هو محفوظ عمر الشحاري ، ذاك الرجل الطيب ، وصديق خالي .. هل ذاك هو أخوك الأكبر؟
فكانت إجابة البحاح: نعم  هو محفوظ عمر بحاح أخي !!
يالها من مفاجأة.. ومحاسن الصدف!
يومها تملكني شعوران : شعور بالنشوة بأن محفوظ عمر المدكن صاحب خالي هو أخو الكاتب والأديب الأستاذ محمد عمر بحاح، وشعور بالأسف بأنني لم ألتقط من شخصية محفوظ الصفة التي كان يخفيها بصمت وجسارة بأنه قارىء كتب ومتعلم وأنه بهذا الوصف يعلو على ذاك محفوظ الشحاري بل كان هو معلم ومرشد أخيه القاص والأديب  محمد بحاح!! وليته كان معي كذلك . 
ربما كان اعتداد محفوظ بذاته ، وقلة أحاديثه وعدم فطنتي باكتشاف اسمه الكامل وعدم الإلمام بالشخصية الأخرى لمحفوظ عمر لم تنعكس لي يومها كي أتعلم منها، وأنا ذلك الطفل الشغوف بالأدب والقراءة والشعر،  وكان يمكن أن أستفيد من كل هذه الصفات والسمات التي سردها البحاح في مقالتيه (السابقة والأخيرة عن الرحيل) عن ذاك الحضرمي القارىء النهم لكتب الأدب والشعر.
٦ـ اليوم وقد تلقيت خبر رحيل تلك الشخصية الأبوية محفوظ عمر بحاح  التي زاملت زمن طفولتي بذكرياتها الجميلة أشعر أن صفحة من تاريخي الشخصي طويت ، وهنا لا أملك إلا القول:
كم كنتَ دمث الأخلاق والمعاملة، باسم الصورة وطيب القلب رزين الطباع  أيها (الشحاري) النبيل محفوظ عمر بحاح.
لروحك السلام.. ولذكراك نفحة عطرة في أرواحنا.. وفي سجل ذكرياتنا.
سأتذكرك بكل محبة أبوية ما دمت اتذكر سني طفولتي.