وجد الصبي (سعيد) نفسه ذاات يوم من ايام الصيف، على رصيف الميناء الطويل  الممتد على البحر، برفقة أخيه ، وهو يحمل حقيبته، ويقوده إلى السفينة و يلقنه كلمات قليلة: اسمع ياسعيد،   إنك ستركب البحر الان مسافرا الى (عدن) لدى اخيك التاجر  ( عوض ) الذي طلب قدومك للدراسة هناك اتسمع؟
قال الصبي:
نعم.. اعرف ذلك .
 وجيء به  إلى الميناء، كان يرتدي ثيابا ريفية، وكوفية،ولم يكن ينتعل اي حذاء،كانت عيناه مزججتين بالكحل، وشعره مصبوغ بالدهن، وجيبه مليء بالشلنجات المعدنية، وكان كثير الحركة، كثير النظرات، وكان عليه أن يقفز الى وسط قارب صغير من خشب الساج، ومن ثم سيأخذه هذا القارب إلى السفينة الراسية في عرض البحر،قبالة الميناء، إلا أنه لم يستطع القفز لتأرجح القارب،يمنة ويسرة،  فحمله بعض الرجال والقوا به وسط القارب الخشبي، كان  فزعا، يداري ارتباكه بالابتسامة الباهتة، حتى التصق القارب بالواح السفينة الخشبية، وكان عليه الآن أن يصعد ويمسك بالحبال ويركب، لكنه لم يستطع أيضا الصعود، فهذه اول مرة يركب فيها البحر، فحمل والقي به على ظهر السفينة، فرأى بيوت المدينة المطلة على البحر، وشاهد الموج وهو يحاول التهامها ، فتصده بساساتها الصلبة، فيعود خائبا إلى عرض البحر. ثم نظر  أمامه فرأى البحر الواسع،في وسطه القوارب الصغيرة والسفن والبواخر،كان البحر شاسعا، ينتهي عند نقطة بعيدة لايتخيلها فكره، ويعتقد أن هذه النقطة هي نهاية العالم، وعدن الذاهب اليها، تستيقظ في وعيه الصغير كبلاد نائية هي آخر المدن، وآخر المعمورة.
 وعاد مرة أخرى ينظر إلى البيوت  البيضاء المطلية بالنورة، واحس انها مدينة تختلف تماما عن قريته، واعجب بمنارة المسجد العالية، والجبل الذي تحتمي به المدينة، وتنام تحته مطمئنة البال.
 ولامست يده وهو منحنىء  حافة السفينة الخشبية، والموج يضرب فيها يكاد يقتلع الواحها ، فأخذ غرفة من ماء البحر بيده  ، وسرعان ما ضربته برفق موجة بللت ملابسه، ، وقد تهيأت السفينة للابحار إلى عدن، وقام البحارة بجر الحبال، وتفقد المحرك، وانتشروا في عرض السفينة، فمنهم من وقف على ظهرها ، ومنهم من نزل اسفلها .
 وبحث  عن أخيه على اليابسة فألفاه واقفا مع المودعين،  يلوح له بيده، ثم يختفي بعيدا عن ناظريه، ليبقى في السفينة مع أشخاص لا يعرف  أحدا منهم.
 وتذكر من صور الأشخاص في هذه اللحظة: أمه، ومعلمه في الصف الثالث الابتدائي،حتى غاب طيفهما عنه.
 وراحت السفينة تبتعد عن الميناء ،قليلا قليلا، حتى غدت تلك المنازل نقطة بيصاءبعيدة تتأرجح على صفحة الموج.
وجاءه صوت أمه من البعيد:
_ انتبه لاتعمل شيء مش _تمام

_اسمع كلام اخيك
_تمام
_ملابسك في الشنطة
_تمام
_انتبه من البحر اذا شعرت بدوار كلم الربان
_من الربان
_رجل طويل ستجده هناك
_تمام
وسمع صياح البحارة على ظهر السفينة، وهم يحملون عصيا غليظة يضربون بها رؤوس الأسماك الضخمة، قبل أن تفارق الحياة، ليسهل طلوعها على ظهر السفينة، ولتكون طعاما للبحارة، وقد شاهد تلك القوة التي يتمتع بها عمال البحر، وهم في طريقهم الى بندر عدن. وغابت شمس ذلك اليوم ليحل الظلام الدامس  نواحي البحر الذي يطوي في طياته السكون والمجهول.
وجاء للصبي من البعيد مرة اخرى صوت أمه يقول:
_اسمع ياسعيد اياك أن تنزل البحر فالبحر خطير سيلتهمك
_تمام
_ولاتتحدث مع أحد
_تمام
_ولاتعمل فوضى داخل بيت  اخيك
_تمام
وهنا أخذ الصبي سعيد ينظر إلى ظلام الموج، وسكون الليل، وهو على ظهر السفينة.
 وبينا هو غارق في تأملاته، إذ مر أمامه رجل طويل، على ملابسه رائحة البحر، فأدرك أنه ربان السفينة الذي حدثته عنه أمه، وقد أسند ظهره إلى سارية السفينة، وينظر إلى السماء والنجوم، كأنه يتلو انشودة البحر ،  ويتأكد من جهاته ، والليل لاينتهي.