أحبيب القراءة ...مدمن الكتب ... " إلى روح أخي محفوظ ...."
في صباح له نكهة النهايات المؤلمة،
المشبعةبرائحة الموت، نقل لي ابن اخي نجيب نبأ وفاة "والده" أخي محفوظ، وليس هنالك ماهوأثقل على القلب، ولا أوجع على الفؤاد، من نبأ تبدأ به يومك بفقد من تحب، عِوض أن تبدأه بتحية صباحية رقيقة وحكمة تعودتها طوال سنوات !
أتحسس هذه الكلمة : أخوك محفوظ "مات ". أبحث عن معنى في القاموس لهذه الكلمة، مع أننا نعيشها في كل يوم، في هذا الموت الذي لايتوقف لحظة ، يحصد الأرواح ،يأتي في وقته وأجله المحتوم، لايتأخر. نفكر فيه في كل حين، ونخشى أن يداهمنا بغتة. وحين يأتي يكون وقعه رهيباً كأننا نسمع به لأول مرة، يحفر اًسىً عميقاً في قلوبنا،ونجد أنفسنا وحيدين كاليتامى....
لاشيء الآن يكسر ألمي وحزني، أسبح وسط هذه الكلمات التي يغلب عليها هي الأخرى لون السواد، وعلى حروفها الأسى ،التي وإن أراد مرسلوها، العزاء،المواساة،
مشاطرتك في مصابك الجسيم،التخفيف من ألمك، والتهوين من وجعك، إلا انها- من حيث لا يقصدون- تخترق أحشاءك، وتلقي مزيداً من الألم والبث إلى آلامك وأساك، في وقت تعجز فيه حتى عن البكاءعلى مصابك، وأنت ترى نفسك بموت أخيك انك فقدت شيئاً من روحك لايعوض، ولاتستطيع حتى أن تصرخ ألماً.
لكن هذا قدرنا ، نمضي مع الذين يمضون، وعلينا أن نتقبله بالصبر والسلوان، والتسليم بقضاء الله الذي لا راد له .
محظوظ أن يكون لك أخ مثل أخي محفوظ ، ومؤلم جداً أن تفقده، كأن سهماً اخترق قلبك .
لأول مرة أحس بأنني فقدته ، شعور لم يراودني قبل الآن ، حتى حين ابتلعته بحار الغربة، وطوته كرب الهجرة، وغاب عنا نحو ربع قرن أو يزيد، لانعرف عنه
خبراً ولا أراضين له ، لكن لم نفقد الأمل، رغم انه لم يكن لدينا ذلك اليقين الذي كان لأمه السيدة سعيدة بنت عمر برقة، بأن ضناها سيعود ذات يوم ، وسوف تكحل عينيهابرؤيته قبل أن يطوي العمر سنينه. كانت أكثرنا صبراً، يقيناً .كان فيها شيئاً من أيوب، وفيه شيئٌ من يوسف!..
وكما أيقنت تماماً عاد السنونو، آب الطير المهاجر إلى عشه كما في قصتي : "ألم أقل لكم... ؟" المنشورة في العدد الأول من مجلة( حوريت ).
أخي محفوظ ، كان أنموذجاً متفرداً لجيل من الديسشرقاويين-نسبة إلى الديس الشرقية- التي ولد وعاش فيها سنوات طفولته وصباه وبعضاً من شبابه، وسنواته الأخيرة ومات فيها ، واحتضن ثراها جثمانه الطاهر عصر الأول من يونيو. ورث الكثيرمن عنفوانها، صلابتها، جمالها،ورقتها،من بحرها ونخيلها ومعايينها، وعذوبة مياههاوغنائها، وكبرياء وأنفةالمشقاصيين. وأيضاً من إدمانهم للهجرة وركوب البحر.
والديس أرض النخيل وكثافة ألوان الأخضر، والشمس الدافئة والمياه الكبريتية الحارة تمنح الدفء والحياة للكائنات. وغفيراً،ماانغمستُ ومحفوظ في مياه الصيق الساخنة، وفي مياه العارة الباردة. كثيراً مامشينا في دروبها الضيقة ، في ظلال جدران بيوتها الطينية،في كل فصول السنة. لكن هذه الديس لها مذاق خاص في فصل الخريف أكثر من كل الفصول، تكون للحياة متعة صافية، عندما تكتسي الغابة بألوان الأحمر والأصفر، ورائحة النخل المحمل بالبسر والرطب والتمور،تجتذب طيور السنونو ، فتؤوب بكثرة. هو الحنين والنخيل ، يجعل المغتربين يوقتون عودتهم في الخريف. ويدفنون أشواقهم في أحضانها النساء . الأمهات والزوجات.
والخريف موسم الزواجات وتأسيس الأسرالجديدة بالمودة والرحمة، تشتعل فيه العواطف، ومساجلات الشعراء، وتصدح في لياليه أصوات الدان، وترج أقدام الراقصين مدارات الشبواني ، وتسبح شعور الصبايا بالنعيش والأحلام الوردية.
بين قرنين عاش ، العشرين الذي ولد فيه، والحادي والعشرين الذي مات فيه، بكل ماحفل به هذان القرنان من حروب عظيمة، وثورات و أحداث وتطورات كبرى، واختراعات واكتشافات علمية مذهلة غيرت مصير البشرية . لكن أخي محفوظ وهو يرى كل ذلك العالم المضطرم المضطرب، لزم الإخلاص في حياته أكثر من أي شيءآخر ، للقراءة إلى حد الإدمان بدرجة أولى. لم يكن يفارق الكتاب، ويجد في القراءة متعة ولذة وفائدة لايعادلها أي شيء آخر . وقد لزم الكتاب والقراءة حتى الأشهر الأخيرةمن عمره، وقد شارف التسعين وضعف بصره، فكان له "خير جليس في الزمان كتاب"، وكأن المتنبي العظيم كان يقصده بالذات ونظراءه ممن يتخذون من الكتاب خير صديق،وطريقاً إلى المعرفة والثقافة.
والراديو "الترانز ستور"، مرافقه الثاني. يستمع منه للأخبار، ومايجري في العالم من أحداث، ولأغاني مطربيه المفضلين . وكان عاشقاً كبيراً للطرب الأصيل والغناء، لأم كلثوم وعبدالوهاب، وفيروز، ونجاة الصغيرة،ومحمد جمعة خان وعوض الدوخي، وبن سعد وغيرهم من أساطين الغناء في ذلك الزمن الجميل. وكان يتمتع بحس مرهف وأذن حساسة، وذوق رفيع، لايفوت الحفلات الشهرية لأم كلثوم.
على خُطى أبيه وأخيه الكبير فرج والحضارم قبله ،سفره الأول، كان إلى عدن، وكانت حاضرة مدن شبه الجزيرة العربية والخليج، لاتضاهيها مدينة في تجارتها، وازدهارها، وتطورها، واستيعابها لليد العاملة. كانت حلم كل من يريد تكوين الذات ، ووجهة الباحثين عن الثروة،فجاء إليها الناس من كل حدب وصوب، من أوربا، وآسيا ، وافريقيا. وكان الحضارم، من أوائل من اجتذبتهم عدن ، فاشتغلوا في ماهُم شطارٌ فيه ، التجارة، فصاروا من كبار تجارها، وبرزت منهم أسماء يُشار لها بالبنان. كما سيطروا بدرجة رئيسة على تجارة المفرق ، أو مايعرف بعدن ب "دكان الشحاري "الذي لايخلو منه حي ولاشارع ولازقاق في عدن، فاشتغل في دكاكين العطارة، كان آخرها في حافة الهاشمي بمدينة الشيخ عثمان بداية ستينيات القرن الماضي. هنا في عدن، عرف محفوظ الكِتاب، واتخذ منه صديقاً، فوجده أقرب إليه من نفسه ، فعشق القراءة وادمى الكتب . وكانت دور النشر في القاهرة وبيروت ودمشق تضخ إلى مكتباتها آخر إصداراتها، في الرواية والشعر والفكر، وشتى المعارف، فصار حريفاً دائماً للمكتبات. واكتظ دكانه الصغير بالكتب والمجلات، التي يحملها فيما بعد كأثمن مايملك إلى بيته في الديس الشرقية ،ثروته الوحيدة التي ينفق على شرائها أكثر مما ينفق على أي متاع آخر..ومما اذكر انه اصطحبني ذات يوم إلى مدينة الشيخ عثمان ، وأسواقها ملأى ككل أسواق عدن ببضاعة العالم، وكنت أمني النفس بحذاء أولعبة، اوحتى ربطة عنق ، لكنه اشترى لي كتابين من مكتبة الزحف المقدس ، وبالكاد كنت طفلاً لم يتجاوز العاشرة إلا بقليل !
وحين نقل الحضارم، وجهة هجرتهم صوب الكويت، بعد طفرة النفط ، حملته في نهاية1967م، "سفينة القُدرة" مع مهاجرين آخرين من الديس والحامي والشحر وغيل باوزير. وهناك أيضاًواصل عشقه في شراء الكتب والمجلات، وثابرعلى قراءة كل جديد ، قبل أن يرسلها مع مسافرين عائدين، أو يحملها معه في المرات القليلة التي عاد فيها للديس للزيارة قبل أن تنقطع أخباره..
وكانت تلك الكتب أجمل هدية يفرح بها الطفل الذي ورث عن أخيه محفوظ هذه "السوسة" فقرأ كل ماكان في مكتبته العامرة من مؤلفات نجيب محفوظ، ويوسف السباعي، وإحسان عبدالقدوس، ويوسف إدريس،ومحمد عبدالحليم عبدالله، وسهيل ادريس ،وطه حسين، والعقاد، وتوفيق الحكيم ، وعلي احمد باكثير، واسماعيل فهد اسماعيل، وغسان كنفاني، وجبران خليل جبران ، والطيب صالح. وكانت مكتبة أخي محفوظ تحتوي على أعمال الكتاب الروس العظماء في الرواية غوغول وتولستوي، وبوشكين، ،وتورجنيف وديستوفيسكي ، وتشيخوف، وجوركي.والكتاب الانجليز شكسبير، ديكنز، ايميلي برنتي، توماس هاردي، وجورج برنادشو ولكتاب فرنسيين أبرزهم: ألكسندر دوما، فيكتور هوغو، بلزاك،غوستاف فلوبير، بودلير، جان جاك روسو، البير كامو، سارتر، ،سيمون دي بوفوار.ولكتاب امريكيين من ابرزهم:مارك توين، همنجواي ، جون شتانبك.وكان للشعر نصيبه أيضاً فلم تكن تخلو من دوواين لشعراء العصر الجاهلي وشعراء العهدين الأموي والعباسي ، ولشعراء الأندلس، وشعراء ابوللو، وشعراء من مصر وسوريا ولبنان واليمن وفلسطين، فصار الكتاب والانكباب على قراءة الكتب عشقه هو الآخر، لكنه لم يرتق إلى مصافه أبداً . وكانت مكتبته تلك مدرسته الحقيقية التي نهل منها، وعشق الأدب نثره ومنظومه وشعره، لكنه تعلق بالسرد منه بصفة خاصة، القصة والرواية.
أعتبر أخي محفوظ، مَثلي الأعلى في الشغف بالقراءة،ومعلمي الحقيقي ،الذي فتح أمام الطفل الذي كنته، آفاقاً لاحدود لها، ماكان لي أن أبلغها، فسد فراغاً هائلاً في حياتي، بعد موت جدتي ابوللو نوح، وجدي سالم باشطح اللذين كانا بوابتي الأولى إلى عوالم الحكاية، عبر ماكانا يحكيانه لي من قصص وحكايات وأساطير وأنا طفل صغير مسحور،فكانت مكتبته، النور الذي شع فجأة على نفسي، ولم استطع مقاومته فرحل بي نحو الآفاق البعيدة.أفيض في بحور الكلمات، وندى الفجر، وظلال الأشجار، وضفاف الأنهار، والآهات التي تأتي من أعماق الروح، وفي تفاصيل النفس البشرية، أجوب في إبداع الأدباء والكتاب الذين يجعلون من الحياة الصعبة أمراً سهلاً، مستساغاً ومحتملاً، فيزرعون في الأرض اليباب الحدائق والجنان، والزهور، وفي نفوسنا القلقة والمعذبة الأمل والبهاء. لاشيء يمكن أن يستوعب تلك العوالم المعقدة والبؤس البشري ، سوى الكلمة، اللغة الخارجة مثل الموجة العارمة واشعة الشمس، تشع مذكرة البشر أن الدنيا جميلة وتستحق أن نعيشها. ولعل أخي محفوظ قد أدرك ذلك فتوغل في ذلك العالم ليجلو بؤس الواقع،والحياة المثقلة بالصعاب، وجبروت الظلم. ومثله فعلت، وعلى خطاه أسير، فلامتعةتساوي قراءة كتاب تعرف منه نفسك، والآخر ، يصنع لك نهايات تراجيدية، في حياة لست فيها مجرد صفر، بل إنساناً كامل الأهليةيجد متعته ليس في القراءة العابرة، بل في التفكروالتمعن،وفهم لغز الحياة، بأنك جزء أصيل في هذا الكون العظيم.
في كل هذا الزمن ، وكل هذا العمر كان أخي محفوظ معي في كل لحظات القراءة أوالكتابة. كان كل شيء يقودني نحوه ، حتى في أشد سنوات غربته، أو غيابي.لم تضع المسافات حائلاً بيني وبينه. دائماً كنت أصل إليه، دون أن أكتب له،أو يكتب لي، دون أن يتصل بي، أو أتصل به.
كان بيننا ذلك الخيط، أو الخط الوجداني
الرفيع الذي لم يكن يعرف سحره سوانا....
كان محفوظ بعيداً جداً، ربما كان كذلك للآخرين ، ولكن بالنسبة لي كان قريباً كثيراً في بعده أكثر من قربه. أما وقد مات فإنه صار أقرب لي بروحه أكثر من أي وقت آخر ..
أسأل الله له الرحمة والغفران والرضوان
وجنات النعيم ..
لروحه السلام ولنا الصبر والسلوان.