فنُ التراويد الفلسطيني: إرثٌ يكافحُ النسيان
صوت عدن | ثقافة وفن:
التراويد ومفردها ترويدة، هي نوع من الأغاني التقليدية تؤديها النساء الفلسطينيات للتعبير عن فرحهن وحزنهن. وتُغنّى التراويد أساسًا في حفلات الزفاف وغيرها من المناسبات الهامة.
على مسرح مترو المدينة في بيروت، في ديسمبر الماضي، ظهرت في الخلفية صورة جدة المغنية الشعبية الفلسطينية سلوى جرادات مرتدية الثوب الفلسطيني، تصحبها الموسيقى الإلكترونية، وذلك عندما صعدت الفنانة إليها لتحيي الحفل في إحدى ليالي ديسمبر الباردة برفقة عازف الموسيقى الإلكترونية اللّبناني “إتيان” جامعين بين الموسيقى الإلكترونية والموسيقى الشعبية العربية.
وافتُتح الحفل بالأغنية الشعبية الفلسطينية المشهورة “يا طالعين الجبل”. ويُعتقد أن هذه الأغاني توارثتها الأجيال عبر التقاليد الشفهية، وقد غنّتها النساء في طريقهن إلى سجون الاحتلال الإسرائيلي ليخبرن المعتقلين أن الفدائيين سيحررونهم قريبًا. وقد أدخلن حرف اللام بشكل عشوائي في كلمات الأغنية حتى لا يفهم الجنود معانيها الأصلية.
واستحوذ صوت جرادات الآسر على آذان المستمعين، وفي أجواء الحفل الأثيري تفاعل الجمهور وغنّى بالصوت واللّحن تذكيرًا بنضال الشعب الفلسطيني من أجل الحرية.
ويُطلق على الأغاني التي تشبه أغنية “يا طالعين الجبل” التراويد ومفردها ترويدة، وهي نوع من الأغاني التقليدية تؤديها النساء للتعبير عن فرحهن وحزنهن. وتغنّى التراويد أساسًا في حفلات الزفاف وغيرها من المناسبات الهامة.
وتستخدم التراويد في الفلكلور الفلسطيني للتعبير عن مختلف المشاعر والاحتفالات والأغراض السياسية. لكن الخبراء يحذرون من تعرضها لخطر الانقراض ما لم يُحافظ عليها.
🔹الأغاني الشعبية الفلسطينية
تعد الموسيقى عنصرًا أساسيًا في الثقافة الفلسطينية، فهي منغرسة في التجمعات السياسية والمناسبات الاجتماعية، تفسّر الكفاح والتقاليد الاجتماعية.
وكان للنساء دور تاريخيّ في انتشار الموسيقى عبر التاريخ، فقد غنيَن في حفلات الزفاف والحصاد، وحتى في الطريق إلى جلب المياه من الآبار.
وترتبط الأغاني الشعبية الفلسطينية ارتباطًا وثيقًا بحفظ الهوية الفلسطينية إلى جانب ما يميزها من طعام تقليدي ورقصات وملابس. ويسعى الفلسطينيون في الداخل وفي الشتات إلى نقل هذه التقاليد عبر الأجيال في محاولات مستمرة لحفظها من الزوال، وفي مواجهة تهديدات نظام الفصل العنصري الذي يعيقُ التعبير عنها واستمرارها، وتناسي العالم لها.
والأغاني الشعبية هي أغانٍ ريفية تناقلتها الأجيال، وهي متنوعة في آدائها، وتتميز بلحنها البسيط والحزين ولغتها المحكية.
وقد عمل العديد من المنظمات والأفراد خلال الانتفاضة الأولى في أواخر الثمانينيات على إحياء هذه الأغاني وتسجيلها والحفاظ عليها وإتاحتها في محاولةٍ منها لجمع التراث الشعبي بدل فقدانه مع مرور الزمن.
والتراويد جزء لا يتجزأ من هذا التراث، فهي تحمل مضامين عاطفية وسياسية.
🔹ماهيّة التراويد؟
كلمة “تراويد” مأخوذة من الفعل “رَوَّدَ” أيّ ردد لحنًا وكرره. وهذا اللّحن يتكرر رغم التغيرات التي تطرأ على كلمات أغاني الفلسطينيات الشعبية وموضوعاتها. لكنّ العبارات الافتتاحية والختامية تظل ثابتة حتى لو تغيّر المضمون أو عُدّل.
وتذهب بعض المصادر إلى أن كلمة “ترويدة” مأخذودة من “ورد” أي ورود مياه الآبار وجلب المياه، إذ كانت النساء يغنين ويتنافسن لتخفيف عبء المهام اليومية بحسب هذه المصادر.
ويوضح خبير الفنون الفلكلورية، حمزة أسامة العقرباوي، أن هذا النوع من الأغاني كان يستخدم في حفلات الزفاف للتعبير عن الحزن لرحيل العروس عن بيت أهلها، فتغني الأمهات والأخوات من الحزن.
وقال العقرباوي: “هناك انحسار في الإقبال على الأغاني الشعبية بشكل عام لأن الموسيقى الإلكترونية ومنسّقي الأغاني (الدي جيه) باتوا متاحين بسهولة. فلم تعد التراويد تُغنى اليوم إلا في عدد قليل من القرى”.
فبعدما كانت جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية، ووسيلة تخفف من ضغط العمل الشاق في الحقول والأعمال اليدوية المُجهدة، باتت التراويد اليوم محصورة في المناسبات الخاصة.
وأضاف العقرباوي: “الموسيقى تحسّن مزاج الإنسان، وألحان التراويد سهلة الحفظ. وهذا جعلها متاحة للناس في الوقت الذي لم تكن الموسيقى الإلكترونية والتقدم التقني يهيمنان فيه على حياتنا”.
🔹أحد أشكال المقاومة
لطالما كانت لهذا النوع من الأغاني أهمية سياسية. فخلال الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936، قطع الانتداب البريطاني سُبل التواصل بين الثوار وقراهم.
ولذلك ابتكرت النساء طريقة للتواصل مع الثوار عُرفت باسم الغناء المشفر. وذلك إما عن طريق تغيير نطق الكلمات كلها وإما الاكتفاء بقلب آخر حرف فقط أو تغييره.
ورغم ما يبدو من عشوائية الأغاني وتشتتها، فقد ابتكرتها الأمهات والسجناء لاشتياقهم بعضهم إلى بعض حتى يستطيعوا التواصل. وكان الهدف منها تصعيب الفهم على جنود الاحتلال الإسرائيلي.
وتعتقد سلوى جرادات أن الأغنية الشعبية ما زالت تهدد الاحتلال حتى مع تراجع استخدامها، وأنّه يتمنى لو أنّ تأثيرها زال كليًا.
وقالت: “لم يكتفوا بسرقة أرضنا وطعامنا وملابسنا وادعاء ملكيتها، فموسيقانا تهددهم وهم يعرفون مدى قوتها”.
ولطالما حالت قوات الاحتلال الإسرائيلي دون انتشار الأغنية الشعبية، ففي مارس 2022، اعتقلت طالبين فلسطينيين في الجامعة العبرية في القدس لغنائهما أغاني شعبية تقليدية. وحُرم الطالبان من دخول الحرم الجامعي ستة أيّام بعدما قبضت الشرطة عليهما وهما يستمعان إلى أغنية “على دلعونا” التي تصف حصاد الزيتون وطعام الفلاحين الفلسطينيين في الربيع ويعيدان تردادها.
وصرحت الشرطة الإسرائيلية بأن ضباطًا يدرسون في الجامعة “لاحظوا طالبين يغنيان أغنية بالعربية تتضمن كلمات تدعم القيام بأعمال إرهابية”.
🔹الحفاظ على التراويد
يقترح العقرباوي أنّه من أجل الحفاظ على هذا التقليد، على الكبار أن يواصلوا نقل الأغاني إلى الأجيال الصغيرة والتركيز على أهميتها التاريخية والثقافية.
وقال: “سيكون من الصعب محو التقاليد الشفهية إذا تعلّمتها الأجيال القادمة. لكن لا بد لهم من ممارستها حتى تستمر، كما يجب على المؤسسات الثقافية التي تنشر الفلكلور الغنائي الفلسطيني وتوثقه أن تحفظ هذه الأعمال”.
ويرى العقرباوي أن الذاكرة الجماعية والإخلاص للهوية عنصران حاسمان للمقاومة والسيادة على الأرض. ومن ثمّ يمكن للحفاظ على التراويد أن يدوم من خلال مشاركتها المستمرة مع من لا يستطيعون التفريط في إرثها.
وأضاف: “لن يجبرنا أحد على نسيان تراثنا. فهو حي في عقولنا وقلوبنا، وينتظر لحظة مشاركته مع الآخرين”.
كما أشارت جرادات إلى أن وسائل التواصل الاجتماعي قدّمت مساهمة كبيرة في حماية الفلكلور الفلسطيني وانتشاره، لا سيما في الموسيقى. لكن هناك قيود منها الحظر والحجب الذي يتعرّض له المحتوى الفلسطيني.
وقالت: “فضلًا عن الحظر والحجب، هناك محتوى يعكس الهوية الفلسطينية. فبإمكان أيّ شخصٍ أن يصور فيديو ويزعم أنّ فيه شيئًا من التراث الفلسطيني حتى لو كان مخطئًا. ويضلل هذا المحتوى كثير من الناس لأن المعلومات فيه لا تستند إلى قول الخبراء والكبار”.
واختتمت قائلةً: “يجب التعامل مع الفنون الشعبية بحرصٍ وعنايةٍ، فهي مسؤولية كبيرة تتطلبُ تقديرًا مناسبًا وعرضًا لائقًا”.
المصدر: Fanack.com بقلم/ دانا حوارني