ها نحن نودّع عامًا آخر…
لا أعرف إن كان الوداع عادةً زمنية، أم محاولة متكررة لإقناع أنفسنا بأننا ما زلنا نتحرك. أيامٌ قليلة، وتُطوى صفحةٌ جديدة من أعمارنا، لا لأن الزمن اكتفى، بل لأننا لم نُحسن العيش فيه كما ينبغي. نغلق عامًا، ونفتح في داخلنا أسئلة قديمة بثيابٍ جديدة.
أنظر حولي، فأشعر أن الأحوال لا تنهار دفعةً واحدة، بل تتآكل بصمت. أوطانٌ تتمزق ببطء، وحدودٌ تتشقق من الداخل قبل أن تظهر على الخرائط، وشعوبٌ يزداد حقدها على بعضها، كأن القسوة صارت أسهل من الفهم.
أحيانًا أسأل نفسي: كيف كنا قبل عشرين او  عشرة أعوام؟
لا لأحنّ إلى الماضي، بل لأفهم الحاضر.
كيف كان الاختلاف رأيًا يمكن تحمّله، لا خنجرًا يُشهر في وجه الآخر؟
وكيف صار الحوار خصومة، والانتماء سلاحًا، حتى داخل الأسرة الواحدة؟
لسنا أشرارًا كما يُقال عنا،
لكن الخوف حين يطول، يُفسد الروح،
ويعلّمها أن تكره قبل أن تفهم.

ومن بين هذا الركام، يفرض السؤال نفسه بهدوءٍ مؤلم:
ما الذي حدث؟ ولماذا فشلنا نحن، بينما مضى الآخرون، رغم عثراتهم، في محاولات لا تنتهي؟

ربما لأننا، منذ زمنٍ بعيد، لم نبنِ دولةً بقدر ما أقمنا سلطة.
تعلّقنا بالحاكم أكثر من القانون،
وبالشعار أكثر من المؤسسة.
صار النظام فردًا، وصارت الدولة ظلّه، وكلما كبر الظل، ضاق الضوء.
لم نُعرّف الإنسان يومًا بوصفه مواطنًا كامل الحقوق،
بل تابعًا:
تابعًا للزعيم،
أو للقبيلة،
أو للطائفة،
وكأن الحرية ترف، لا حق.
وحين يغيب المواطن، لا تموت الديمقراطية فقط،
بل تموت الثقة،
ويموت الشعور بأن هذا المكان لنا جميعًا.

حكمنا العسكر باسم الأمن،
وحكمتنا العائلات باسم التاريخ،
وتغيّرت الوجوه، وبقي المنطق ذاته:
السلطة أولًا، ثم الوطن إن تبقّى متّسع.

الأقسى من ذلك أن فشلنا لم يبقَ داخل حدودنا،
بل خرج معنا إلى المنافي.
في الغربة، قد تمرّ بجانب عربي مثلك،
فتشعر بثقلٍ غريب،
غربة عن الوطن،
وغربة عن بعضنا.
كأننا نحمل أوطاننا المكسورة معنا،
ونخاف أن نراها في عيون الآخرين.
صرنا نشكّ ببعضنا،
نحمّل بعضنا ذنوب أنظمة لم نخترها،
ونرث أحقادًا لم نزرعها، لكنها زُرعت فينا ببطء.

نحن شعوبٌ تجيد الكلام،
لكنها تتعب سريعًا من العمل الطويل.
نثور، ثم نرهق، ثم نعيد إنتاج ما ثرنا عليه،
وكأن التاريخ عندنا لا يسير، بل يدور.
ولعل أقسى ما في هذا كله،
أن الفشل لا يصرخ،
بل يتكرّر.

عامٌ يرحل، وآخر يأتي،
والأسئلة ذاتها، والوجع ذاته.
ومع ذلك، لا أكتب هذا كمرثية.
بل كمحاولة صادقة للنظر في المرآة دون تزييف.
لأن الفشل، في النهاية، ليس قدرًا،
بل نتيجة خيارات، وصمت، وتأجيل طويل للمواجهة.

أخيرًا…
ربما سيأتي زمن،
نبكي فيه على يومنا هذا،
لا لأنه كان جميلًا،
بل لأنه كان آخر مرحلةٍ ظننا فيها أن التدهور سيتوقف هنا.
وحين نؤمن يومًا أن الدولة أكبر من الأشخاص،
وأن السلطة مسؤولية لا غنيمة،
وأن الاختلاف حياة لا تهديد،
وأن كرامة الإنسان لا تُجزّأ بحسب الولاء…
ربما، فقط ربما،
لن نودّع عامًا آخر بالحسرة،
بل نستقبله بوعيٍ أقل غضبًا،
وأكثر صدقًا.