وكأني اكتشف اسكندرية للمرة الأولى والبحر .. أحب البحر ، يذكرني بطفولتي الأولى..مازلت مسكونًا بذلك العشق الأبدي مذ ولدت فيه ذات بحر، فنزلت أسبح كسمكة. اجتاحتني نفس الدهشة الأولى عندما هبطت منه مختلطًا بزرقة البحر وطعم المالح. وكأنني اكتشف البحر لأول مرة متدفقًا بأمواجه، تطوفه النوارس والقوارب وذكريات عمري المفتوح على بحر الساحل الذهبي، وبحر شرمة الساحر، وبحر روستوك الصاخب الذي لم أعرف كيف أكون سمكة فيه!
 - سنذهب إلى إسكندرية..
وستذهب معنا .
هكذا -حسمت-  بناتي الأمر، وعندما ،تحسمن، وعبير بالذات، فلا مجال للرفض. كان علي أن أقبل ليس تحت إلحاحهن فقط، بل لأن الجُملة السحرية الوحيدة : "سنذهب إلى إسكندرية" كانت كافية لأوافق. 
 وحدها من ستخرجني من ضجري وتعبي ورتابة حياتي . لاشيء يفعل ذلك غير البحر واسكندرية.
  أول مارأيت البحر ، أُفقه الممتد إلى مالانهاية،رقص قلبي، رفرف. يبدو أن البنات اخترن الوقت المثالي . لم يكن الشتاء قد حل بعد لكن  زحام المُصطافين، ودرجات الحرارة خفا كثيرًا! وحلت محله أجواء ربيعية  تميل إلى الإعتدال ونسمات بحرية منعشة تهب  من وراء البحر، على الشقة  التي استأجرناها لعدة أيام قريبًا من الشاطيء والكورنيش . كانت نسائمه تهب على الشرفةمنعشة، ونرى جانبا منه ..البحر... ويبدو ان الشرفة لم تكن تتسع لجنوننا بالبحر فقررنا النزول ..
لم يبق في اسكندرية غير أبناء المدينة والبحر،وبعض المصطافين ونحن زوار آخر الصيف القادمين تواً من مدن الزحام والضجر.. 
 إسكندرية جميلة، وأجمل مافيها طيبةالإسكندرانيين،  أصواتهم خافتة، البحر يمنحهم ذلك الهدوء الذي يتميزون به، تلك عادة طبيعة سكان المدن البحرية
حيث تتعايش جنسيات وثقافات وديانات في مكان واحد في نفس الوقت في وئام وسلام كما ينبغي لبني الإنسان أن يعيشوا، ثم يكونون تلك الطيبة التي 
تتقبل الآخر وتحترمه.. فيها شيء من عدن..البحروطيبة
 العدنيين،والعجينة الأممية التي صهرتهم ..
 وجدت البنات على حق إذ هربن بي من صخب وزحام القاهرة، ومن تراب وغبار هضبة الأهرام حيث يكتم على أنفاسي "الربو" ولو لعدة أيام. كان علي أن استمع إلى نصيحة طبيبي  ونصيحتهن منذ زمن والا تطول إقامتي في الهضبة.  
أناوبحرإسكندرية وحريتي. المشي على الكورنيش،
متعةلاتعادلها متعة.
 بناتي. تعذرن بالبحث عن محل "جيلاتي" تناولنافيه
"ايسكريم"قبل عدة سنوات فمشينا على البحر دون أن نشعربالتعب، أوسرنا كل هذا الوقت .
يبدو أن كل ماكنت أحتاجه أن أركب الباص وأكون بجوار البحر خلال ساعات قليلة وأكون بخير .
صوت تكسرالموج يصل إلى مسامعي، وهواء البحر المنعش يداعب وجهي، ويلفح جسدي النحيل. البحر الذي أحب، وشط إسكندرية.مارست كل المتع التي يسمح بها الوقت القليل الذي قضيناه في المدينة. كثيراً، مشينا على الكورنيش، قعدنا تحت الشمسية، وأخذنا نرقب سبطي "بودي" وهو يسبح مع قليلين ، كان الماء مائلاً إلى البرودة فلم يبقوا فيه طويلاً.. لكن أطفالاً صغارًا كانوا يبنون قصورأحلامهم من رمل الشاطيء.. مهندسون بالفطرة! هؤلاء الأطفال..للأطفال أحلام لا يملكها الكبار ... ويغتالوها قبل أن تتحقق.!
 قال لنا صديق :
- لايمكنكم أن تكتشفوا الاسكندرية إذا لم تزوروا المنشية..
ركبنا"الكاريته"او الحنطور
وعشنا بهجةالاستمتاع بركض الجواد وحديث الحودي عن المدينةالقديمة. "تعودأسواقها إلى العصور العثمانية، حيث كان سوق التُرك وسوق المغاربة ملتقىً للتجار القادمين من الشرق إلى الغرب. لاحقًا، عُرفت المنطقة بـ"ميدان القناصل"، الذي أصبح مقرًا لتجمع التجار الأجانب ومركزًا للنشاط التجاري في المدينة". وهذه المعلومات الأخيرة من الدليل السياحي.
 أشار الحودي إلى سوق الذهب،أحد أبرز معالم المنشية.كانت محلات الصاغة القديمة تعرض مشغولاتها الذهبية أنيقة وتتلأ تحت الأضواء المُبهرة.. 
- وهذه "زنقة الستات"، أشهر شوارع المنشية.. 
 كنا سمعنا بالإسم في مسرحية "ريا وسكينة"، وفي الأفلام القديمة والحديثة التي جسدت قصة أخطر عصابة لقتل النساء. الحودي وقف بنا أمام بيت ريا وسكينة، ألقيت عليه نظرة من الخارج، ونظرة أخرى سريعة على الصور ولم استطع أن أكمل أو استمع إلى شرح دليل متطوع كان جالسا هناك بين أطلال البيت الذي أرعب الإسكندرية..
لا يشعرك النظر الى وجه قاتلتين  حتى ولو كانتا صورة فوتغرافية باهتة،بأي متعة، ولا أي بهجة في الإنصات إلى قصص  قتل نساء  !!
 بناتي كُن زرن البيت الملعون في زيارة سابقة فبقين في الحنطور بينما شربت المقلب مع سبطي بودي !!

 قال الحودي :
 -من هذه الزنقة كن يصطن ضحاياهن، إلى بيت العصابةخلف قسم بوليس
اللبّان مباشرة، ويبعن الصيغة في سوق الذهب. 
 - ولماذا سمي زنقة الستات؟
سألت إحدى بناتي ،فرد الحودي: لأنه يقع في زقاق ضيق جدًا..
قرأت لاحقاً أن اسمه لايعود لضيق مساحته، بل لأن كلمة "زنقة" في الأصل مغربية وتعني "حارة صغيرة". تذكرت اننانسميها في عدن "زغط"و"زغطوط".
تشتهر المنشية أيضًا بأسواقها الشعبية،  سوق السبع بنات وشارع فرنسا، التي تمزج بين البضائع التقليدية والشعبية والتذكارية..التجول في أزقة وأسواق المنشية منحنا نوعًا آخر من المُتعة،
كتلك التي كنا نعيشها ونحن في أسواق كريتر، الزعفران، السوق الطويل ، سوق البهرة، سوق البز ، سوق الحدادين . في مثل هذه الاحياءيمكنك استكشاف الثقافة  الشعبيةلأي مدينة،وعاداتها
،وتقاليدهاوأسواقهاالقديمة.
 أدركنا الآن ماذا كان يعنيه الصديق الاسكندراني، 
ولايمكنك ذلك إلا إذا ركبت الحنطور"  أو مشيت على قدميك.
أنهينا جولتنا المسائية في المنشية،وركبنا الأوتبيس السياحي الأحمر المكشوف
من نقطة إنطلاقه بحي بحري بالقرب من قلعة
قيتاباي في رحلة على طول الكورنيش استمتعنا خلالها برؤيةالبحر .وكان الوقت مساء ونزلنا في آخر محطة في المنتزه،حيث عدنا أدراجنا عائدين سيرًا على الأقدام إلى دوارجُحا. مقر سكننا قريبٌ منه، فوتناه عمدًا عندما مررنا بحانبه، حتى لانفوت متعة مشاهدة كل المناظر التي يمر بها الأتوبيس السياحي! يجعل المدينة مثالية للتجول. فلليل سحره الخاص، وتزيده الأضواء المنبعثة من أعمدة النور،التي يزدان بها  الكورنيش،و تلك المتسللةمن شبابيك العمارات بهجة على الروح والقلب .
في اليوم السابق كنا زرنا قلعة قايتباي، واحدة من أبرز معالم الإسكندرية التاريخية، وكالعادة كانت تعج بالزوار مصريين وعرب واندونسيين، وأسبان، و باكستانيين ومن جنسيات أخرى،  وأضفى انضمام طلبة وطالبات مدارس حيوية على صمت الجدران المهيبة، ورتابةالسواح العجائز..كُنا جميعًا نتعرف على جزء من التاريخ البحري لمصر واسكندرية. ونتعلم درسُا في حب الوطن واستثمار حتى الصخور !
 أتاحت لنا جولتنافي داخل القلعة استكشاف تفاصيلها المعمارية.تتكون القلعةمن طوابق ومخازن الأسلحة، وغرف الجنود وثكناتهم، ومسجد القلعة في الطابق الأول، بالإضافة إلى "أسطبلات" الخيل. أما المكونات الخارجية فتضم سورين دفاعيين (داخلي وخارجي) وبرجًا رئيسيًا مربع الشكل من ثلاثة طوابق، وثمانية أبراج نصف دائرية حول الزوايا. 
تعتبر منطقة بحري أهم وأشهرأحياءالإسكندرية التي تعكس تاريخها وثقافتها الشعبية، كانت هذه المنطقة موطنًا لفنار الإسكندرية العظيم، أحد عجائب الدنيا السبع، الذي كان يضيء للملاحة في الميناء الشرقي.وعندما تهدم الفنار بسبب الزلازل المتعاقبة، بُنيت قلعة قايتباي في نفس موقعه، مستخدمة بعضًا من أحجار الفنار. تأسست القلعة في نهاية عصر المماليك خلال القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي) بأمر من السلطان المملوكي الأشرف قايتباي، وكانت جزءً من منظومة التحصينات الدفاعية لمصر لحمايتها من التهديدات البحرية عمومًا، وضمنها تهديدات العثمانيين، حيث تطل مباشرةً على البحر.
  زيارة القلعة من الداخل لوحدها لاتكفي .ركبنا "الفلوكة"، وهي قارب صغير يُدار بالمجاديف
،حيث أبحر بنا في الميناء الشرقي واستمتعنابمشاهدة القلعة من زاويةمختلفة تمامًاعلى وقع موسيقى شعبية. تذكرت قلعة صيرة الصامدة في إباء ،الرابضة
وسط جزيرة في الميناء القديم  في عدن - كريتر. لعبت هي الأخرى دورًا عظيمًا في صد غزوات الغزاة، لكن لم تجد من يهتم بها ويحولها إلى مزار تاريخي يعلم الأجيال، وإلى
 نقطة جذب سياحي تدر الملايين !!

 "تقع شواطىء اسكندرية على المتوسط وتمتد على طول شمال مصر ويحتل الواجهة الرئيسة لهذه المدينة العريقة التي .تتميز  بشواطئها الممتدة من المعمورة شرقاً إلى العجمي غرباً، والتي يبلغ طولها حوالي 24كم." 
  قبل مغادرتنا اسكندرية تلبدت السماء  بالغيوم ، واخذنا ننصت لنقر ات المطر على زجاج العربية .
 ويبدو انها أمطرت في الليل ونحن نيام ، إذ كانت الطرقات مبللة. فكنت أصغي للريح، واشم المطر ونودع مشاهد البحر والكورنيش الذي يزدان جمالاً في هذه الأجواء ، فبدءً من فصل الخريف إلى نهاية فصل الشتاء تتمتع الإسكندرية بسحر خاص، حين يغسل شوارعها المطر. ولم يبخل علينا سائق السيارةالأسواني بكلامه عن برودةإسكندرية في الشتاء وشدة الأمطار والأنواء التي كانت شديدة في السنة الفائتة و خلفت بعض الخسائر..
يمتد فصل الشتاء في الإسكندرية عبر شهور ديسمبر، يناير، وفبراير و وتتعرض خلال هذا الفصل إلى العديد من العواصف الرعدية الشديدة والبرد والأمطار الغزيرة.
أما نحن فكنا نغادر إسكندرية على مضض ولانرغب في مغادرتها في هذه الأجواء الماطرة المنعشة ، وكانت قلوبنا ترغب في البقاء يومين آخرين على الأقل لكن القرار في الأخير كان بالعودة.
السماء كانت سخية جدًا، إذ أن المطر لم يكف عن النزول وصاحبنا طوال رحلة عودتنا بالأوتبيس  إلى المحروسة..