وعندك واحد .....!
يفر من ضجره ووحدته،وطول إنتظاره، إلى مقهاه المعتاد، ومقعده المألوف ككل يوم، في نفس الزاوية المعتادة. مقهى صغير ، يقع على ناصية شارع من أكثر شوارع الجيزة حركة وازدحاما
لاموسيقى،لا تلفزيون،ولاحتى راديو،لكن أسعاره زهيدةبقدر دخان السيارات التي تمر بسرعة وتلقي سخام عوادمها إلى صدره وصدور المارة .
المقهى دخان ورماد ، و"كوباية" شاي يقدمه له النادل،بنفس الطعم والنكهة دون أن يطلبه حتى. يحتسيه رشفة رشفةويجد فيه لذة معتادة! يعرف النادل ماذا يشرب ، متى يأتي،ومتى يغادر !
هو الآخر يعرف صاحب المقهى -رحمه الله-وورثته الذين استلموا زمام الأمور ، والنُدُل الذين تعاقبواعليه،وزبائنهاالقُدامى،من توفاهم الله، ومن بقي منهم- مثله- على قيد الحياة، وعددهم في تناقص ! أسماءهم،وجوههم،ماذا كانوايشربون،وهم أيضاً.ثمة عابرين،يأتون ويفلون . غالباً هؤلاء الجدد يأتون من بلدان ومدن أخرى، يقضون مصالحهم ثم يعودون أعقابهم . المقهى على طريقهم ، فيعرجون إليه،يشربون كوباية شاي،أوفنجان قهوة، والبعض يدخن الأرجيلة، ولايمكثون أكثر من ذلك. لايدخن لكن صدره مثقوب بالدخان ومرارة الانتظار اللذين يتجرعهما طوال سنين .ثم آخرين ليسوا من هؤلاء ولامن أولئك! لايدلفون المقهى، عابرون يسألون عن عنوان؛مصلحة ، مشفىً،بنكاً،صرافة،مكتبة،رقم حافلة يستقلونها إلى الوجهةالتي يقصدونها. وتعتقدون من يدلهم؟ صاحبنا القابع في زاويته العادية.يعرفهاأكثر من الجميع، ،أصحاب المقهى ،النُدُل ومن القاهريين أنفسهم!يصفه لهم،أين؟على بُعد كم ؟..يفعل ذلك في
منتهى الدقةو السعادةطوال الوقت دون فتور ولاتذمر، ،ليس ليوم،أوشهر، أو حتى سنة،بل لعقود!
دلف المقهى زبون ، سلم عليه ، واضح انه زبون قديم،أخذ مقعده الذي فرغ لتوه، وقبل أن يطلب مشروبه المفضل يكون قدسبقه:
- واحد شاي ثقيل، سكر خفيف لعمك ابو اسماعين!
يحفظ اسمه أيضاً وليس فقط نوع الشاي الذي يشربه ابو اسماعيل. صدح صوت النادل :
-وعندك واحد قهوة سادة لعمك الحاج مصطفى ..
الذي دخل لتوه واقتعد أقرب مقعد خال
- وعندك واحد قهوةمضبوط ..
- وعندك واحد زنجبيل
- وعندك واحد قرفة ..
- وعندك واحد شاي على مية بيضة، ُسكر بره
-وعندك واحد ينسون ، زنجبيل، سحلب الخ...
هكذا طوال اليوم،طالماهو في المقهى .يقضي الوقت بين الإجابة على سؤال المارة،ومساعدة النُدُل من كرسيه، على تلقينهم الطلبات التي يعرفها أكثر منهم ، ،وربما من الزبائن أنفسهم، وبين حركة الشارع التي لاتهدأ لا في ليل أونهار.
هكذا كل يوم دون أن يغادر مقعده ، وحين يغلبه النعاس يتدلى رأسه على صدره ويغفو ..
ياالله! كم مضى وهو على هذه الحال ؟
قبل خمسين سنة، وربماأكثر جاء هارباً من شيء ما،على أمل أن يعود في أقرب فرصة ، تكون الأحوال فيها قدتحسنت: " آه ..متى ؟ ". تأتي الأخبار بالسيء، والأسوأ ،العودة تنأى لكن الحلم يبقى، يخفت قليلاً لكن لايختفي. القادمون منها لا ينقلون عنها إلاّ كل ما يكدرالصفو،ويدمي القلب. من يأتي لايرجع ، ومن يعود لايسمع عنه شيئاً. والراديو يضيف مزيداً من القتامة ! اليأس فيرى الأمل بالغد ! يقول: "بكرة تتحسن.. بكرة !". ذلك الغد لايأتي، أو لعله جاء ولم يحس به! لعله استمرأ حياته هذه وقنع بها؟ لايدري حتى! المدينة التي جاء منها ذات يوم فتًى ناحلاً، أسود الشعر في ربيع عمره،وكان يتابع أخبارها بشغف،لم يعد يهتم بها كثيراً ، بعد أن اشتعل منه الرأس، وتدلى كرشه وصار هذه الكتلة المكتنزة المحشورة في المقعد. منذ زمن. أقنع ذاته أوأقنعته سوداوية الأحداث،الموت المتنقل، غياب الأصدقاء بأن لاشيء يستحق أن يسحق روحه أكثر من ذلك. لكن مابالها "الجنة" التي هبط منها، وحده وظل الشيطان هناك يعبث ؟! غادرها ولم تغادره،مازالت تسكن روحه وفؤاده، هي حب حياته، لايستطيع إلا أن يحن لها. يشعر بها قريبةجداً رغم بعدها، ويتألم كل ليلة عندما يأوي إلى فراشه،يبكي كطفل!ويتذكر كل التفاصيل الصغيرة،الصعبة على النسيان. ترك قلبه هْناك.والذكرى وذكريات العمر والبيت العدني المسروق . قبل سنوات كان وأصدقاء الطفولة يلعبون في الحافةويذهبون إلى المدرسة،وأصدقاء أبيه الأوفياء يشربون الشاي في مقهى "زكو،"ويتقاسمون "الروتي" ، ويمشون في المظاهرات ضد الانجليز ويحلمون بالحرية ويغنون بيقين نشيد الغد . كانوا يعتقدون أن الثورة ستعطيهم كل شيء لكنها اخذت منهم كل شيء. والثوار الذين توحدوا حول الوطن سرعان ماعاد كل واحد إلى منطقته، ووجه البندقية إلى صدرأخيه ! انكسرت ضحكات الطفولة،والده مات من الصدمة، أمه لحقت به غماً وحزناً، وهو وجد نفسه محشوراً في سيارة تهريب، ثم في هذا المقعد في ذات المقهى الصغيروالزاوية . كم مضى على ذلك ؟ ستون عاما وربما أكثر ولازال ينتظر !!