ذات ظهيرة حارة من صيف عدن الحار ، وصيف عدن اما حار أوحارجداً ،فتحت الباب على طرق ملح على غير المعتاد ، فإذا أنا وجهاً لوجه أمام جدي ..
  ألجمتني المفاجأة ، واخرست كل حواسي دفعة واحدة. لم أستوعب الأمر إلاّ حين قال لي بصوته المبحوح : 
 _ وراك ياولد ،، باتم واقف يم على الباب ..
  _ لا ياجدي ،، حيا بك ، دارك ، آنست.
  _ وبك الأُنس ...
دلف إلى الداخل ، وعاصفةأسئلة: فين ابوك ؟ وفين امك ؟ واخواتك فينهم ؟ عساهم بخير ..
  _ .. بس ايش جابك  ؟ اقصد ليش ماخبرتنا انك جاي .. 
  وكمن انتبهت ، استدركت :
  _ كيف جيت ياجدي ؟
  _ كما الناس .. بالقالعة !
   اول الأمر افتكرتها اسم سفينة شراعية من تلك التي تبحر بين موانيء حضرموت وميناءعدن ، لكن لما وجدت الإسم غريباً لم اسمع به من قبل عدت أسأله:
  _ واه من قالعة ياجدي ؟
 _ الطيارة ، قالعة تقلع بوها ...!
 أول مرة يركب جدي طائرة في حياته .. هذا حدث تاريخي بحد ذاته يستحق أن يُحكى .. وماانفك جدي يحكيه بعد ذلك لكل من سأله ، ومن لم يسأله : كيف جاء عدن ؟! 
 _ من مطارالريان ، ركبنا الطيارة ، طلبوا منا أن نربط الأحزمة،وقلعت بنا الطيارة قالعة تقلعها .. وبعد قليل طلبوا منا أن نربط الأحزمة ، وقالوا لنا انزلوا وصلنا عدن ، لبوها الراعة تقول ين ! 
  لم يستوعب جدي أبداً أن هناك إختراعاً اسمه الطائرة يمكن أن يقطع المسافة بين حضرموت وعدن بأقل من ساعة واحدة فقط ،، كل علاقة جدي الحضرمي بالسفر هي الصنبوق الذي كان يركبه من ميناء القرن ..وكان يستغرق عدة أيام بلياليها حتى يصل فرضة المعلا ..لا أدري من الذي أقنع جدي بالسفر هذه المرة بالطائرة ، وماهوالأمر المُلح الذي اضطره لفعل ذلك. باديء الأمر اعتقدت انه مريض،ويريد مراجعة الأطباء في عدن ، لكن جدي لم يعد طبيباً في حياته،لا لسبب، بل أنه لم يمرض مرضاً يجعله يحتاج لزيارة طبيب ، كان من بذرة  لقاح حضرمي لم يأكل إلا خبز التنار وسمك الدهرة، واللخم والمالح والتمر ، وخضاراً لم يمسه سوى سماد الوزف،وغير ماء الصيق والكزاب والقشر بالزنجبيل لم يشرب ، ينام باكراً ويصحو باكراً ، يدهن يديه وقدميه بزيت السمسم في المساء قبل النوم، ويذهب مشياً للإغتسال بماء الصيق الحار الكبريتي في الصباح الباكر ، ويصلي كل اوقات الصلاة في مسجد النور ماعدا الجمعة يصليها في مسجد الجامع ، يعود المرضى من أصحابه، ويقوم بزيارة من جاء من سفر من أهل البلاد. جدي ليس له تفاصيل ، كنخلة في الشموخ، كشجرة السدر في القوة، عميق كبحر ، وكحصن منيع ، وجهه صاف كماء ، عَمَّرَ أكثر من كل أصحابه الذين ولد معهم في نفس السنة، لم يغب عن مشهد أعراسهم، ولا عن جنازاتهم، كان يشبه أولئك الرجال الذين نسمع عنهم في الحكايات والأساطير  يعيشون زمن الزامنين ، يعلمهم الزمن ويعلمون الحكمة للناس .
 فتحت عيني فلم اجد فيه صورة أبي الذي مات ، لم يكن مثله ابداً، ربما كان أبي يشبه جدتي ، قصيراً مثلها، حنونا مثلها إلاّ حين يغضب لكنه سرعان مايبرد...
 ماالذي اقتلعك ياجدي من الدار ؟ هل هي الوحدة ،؟ بعد أن ماتت حبابتي، ورحل أبي،  وتزوجت عماتي ، فضاق بك البيت على سعته ! لكنك طول حياتك متعود على العيش وحيداً ، منذ ماتت الحبابة ورحلنا نحن مع الوالد والوالدة، وانشغلت عماتي ببيوتهن وأولادهن.. لاتقل انه الحنين ؟ لقد تعودت على فراقنا ، وتعودنا منذ سنين . سألته :
 _ هل انت مريض ياجدي ؟ بغيتنا اوديك للدكتور ؟ واه تحس ؟
   نفى ذلك على الفور وقال وهو يرفع قبضة يده اليمنى في الهواء ويدق بها على صدره:
 _ انا بخير ياولد ، وصحتي هُدار ..
  _  الحمد لله. لا تكون تخبي علي ياجدي. إذا مافيك شي واه جابك ؟ وفوق هذا تركب الطائرة ؟ عُمرك ماسويتها ياجدي ..
  _بغيت اشوفكم .. واه ملقين في أعماركم .. لا انت ولاابوك عاد تيون البلاد ..ولاحتى تكتبون يوابات !
  وسأل السؤال الذي كنت أخشى منه :
    _   فينه ابوك .. ليش ماييي يسلم علي ..
    لم أعرف بماذا أجيب جدي . لسنوات ظللنانخبيء عنه موت أبي خوفاً عليه من الصدمة، كان ابنه الوحيد ويحبه كثيراً كما يحب كل أب إبنه خاصة عندما لايكون عنده غيره .
 _  ليش مادريت ياجدي؟أبي مات رحمه الله
    _  متى ؟ لا والله محد خبرنا ..
   غرق جدي في نوبة حزن عميق ، ورأيته يمسح دموعه بباطن كفيه ، وأخذ يقرأ الفاتحة على روح أبي ،ابنه الوحيد بصوت متهدج ،واخذت أتلوها معه،وبعد أن انتهى سألني :
  _ وأمك ؟
   _  الله يرحمها..أعطتك عمرها ..
   _  أمك هي الرخرى ماتت ؟ إنا لله وإنا إليه راجعون
   _ ايوووه ياجدي. حزناً على موت أبي. 
   _ لاحول ولاقوة إلاّ بالله . تعال في حضني ياولدي ..
    أخذني جدي في حضنه وهو يتلو الفاتحة ، وقال        بعد أن خلص منها :
   _ يامسكين ! تميت يتيم لا أب ولا أم ؟
_  شعرت لأول مرة بالدفء والحنان منذ سنوات وأنا بين احضان جدي ، منذ زمن لم أحظ بمثل هذا الشعور . كنت في أمس الحاجة إليه بعد الأعوام الحزينةوالمملؤة بالألم على فقد الأحبة . الأب والأم والزوجة وفلذات الأكباد، عشته العمر كله وليس سنوات ، كأنه الدهر كله يضغط على صدري ، لم انسه لحظة واحدة وهاهو جدي ينكأ الجراح التي لم تندمل ، ولا اظنها تفعل ، بكيت على صدر جدي طويلاً ، بكيت كما لم ابك في حياتي، وبللت قميصه بدموعي كطفل صغير.  وأسئلة جدي لاتتوقف، وفجأة كمن تذكر شيئا نسيه ، قال وهو يمسح بعينيه أرجاء الصالون :
     _ وين الزقور ؟ مانا سامع حسهم !
     _  واه من زقور؟
     _ عيالك..أحفادي وينهم ، نسل الحضرمي اللي بيحملوا إسمي . بغيت اشوفهم ، واشمهم !
     _ ماعندي أولاد ياجدي! 
   فسأل فيما يشبه الإستنكار: 
  _ لواه ماعندك صغيرين ؟ مرتك ماتحمل؟
  اجبته :
  _ مافي نصيب ياجدي ..كل ماحملت سقطت . الحمد لله على كل حال .
  _ الحمد لله ..الحمد لله .
  _ومرتك ؟ وينها ؟
   _ماتت ياجدي،ماتت وهي تولد بحفيدك !
  علق جدي :
 _ دا الله عزرائيل حال في داركم !
  وعلى الفور اخذ يستغفر كمن شعر بالذنب ..
   _ ولواه ماتزويت ؟
   _ تزوجت ياجدي ..طلعت عاقر !

صلى جدي صلاة العشاء،وقرأ ماتيسر له من القرآن الذي يحفظه عن ظهر قلب، وسبّح واستغفر الله كثيراً كعادته كل ليلة قبل أن يتهيأ للنوم ، وزاد على ذلك أن دعا بالرحمة والمغفرة لابنه ( ابي ) ولأمي، ولزوجتي التي لم يرها قط ولوالديه ،ولأموات المسلمين والمسلمات أجمعين ،ثم ذهب في نوم عميق لم يصح منه إلا عندما ايقظته لصلاة الفجر .
  في اليوم التالي طلب مني أن أحجز له مكاناً في الساعية المسافرة إلى المكلا ..
    _ لواه ياجدي ماترجع بالطائرة التي جيت فيها؟
   قال بحزم :
     _ أول وآخر مرة نركبها ،، قالعة تقلعها...!
    _لواه ياجدي ؟ ماحبيت السفر بالطائرة ؟
    ماحبيتها طول . تحس عمرك محبوس داخل  حديد طائر فوق السحاب بسرعة مينونة ، طول الرحلة وانا خايف متى باتسقط، قالعة تقلعها وتقلع النصراني اللي صنعها!ماهي كما صنبوق باشنفر .
  وانا اودعه قال لي :
   _ حلمت البارح ...
  _ خير ياجدي ، بواه ؟
_ حلمت انك عرست ومرتك يابت لك ولد ، وسميته    الحضرمي .. 
 كانت هذه آخر مرة أرى فيها جدي ، ومازلت انتظر أن تتحقق نبؤة جدي الحضرمي !