رفع جعفر وجهه ويديه إلى السماء بأعلى مااستطاع وساعده عليه عمره ، وصرخ بأعلى مافي صوته من قوة :
 - ضيقها يارب !
  يكرره عدة مرات حتى يسمعه كل من في السوق.الرؤوس التي كانت مشغولة ، مهمومة،تستدير في حركة لولبية نحو مصدر الصوت.العيون تتركز على جعفر الذي كان يلتصق بمؤخرته في الأرض،  ومستنداً بظهره إلى جدار أحد الدكاكين كحاله كل يوم وطوال سنين .
تتلون الوجوه في تلك اللحظة بلون واحد الاستغراب،والإستهجان.لم يتعودوا أن يتجرأ أحد بمثل هذا الدعاء الذي لم يسمعوا بمثله طوال حياتهم ..ولا أن يأتي بمثل هذه السوءة كما اعتبروها ..
 أول ردة فعلهم أن غمغموا ،أوهمهموا جميعاً : 
 - استغفر الله ! استغفر الله !
 والبعض زاد : 
- نستغفرك يارب من كل ذنب عظيم .
 والبعض بخفوت :
 - الرَّيّال غرم !*
 لكن جعفر أو"يعفر" كما ينطق اسمه وينطقه الجميع لم يسمعهم،وكان ذلك من حسن حظهم .
 ذات يوم جاء بلدتهم، لم يسألوه من أين ، ولم يقل لهم .لايعرفون إن كان له زوج وولد في مكان ما.لم يقل لهم،ولم يسألوه . ولماذا يسألون؟رجل في حاله،ووضعه البائس، وكبر سنه لم يسمح لهم أن يسألوه الكثير..فقط عندما سألوه عن إسمه قال لهم :
 - يعفر ..
 ونطقه ياءًا، كما ينطق الحضارم الجيم !
 ومن يومها وهو يعفر؛ياءيعفر،بت يعفر، شفت يعفر،قال يعفر ...
وظل يعيش من الإحسان،رجل غريب مثله،وفي أرذل عمره،كيف كان سيعيش غير مما يجود به أهل الخير ؟
لكن والحق يقال كان عزيز النفس،لايمد يده بالسؤال،ولم يضبطه أحد يتسول،أو متلبساًبمايتفوه به الشحاذون مثل" لله يامحسنين "، أو "من مال الله" حتى وإن كان له رأيه في ذلك بأن على الأغنياء أن يدفعوا للفقراء أمثاله مما أعطاهم الله. وكان يطبق رأيه هذا بصورة عملية؛ على الناس أن يسعوا إليه ولايسعى إليهم ليستجديهم ماهو حق له بأمر الله ...
كانوا يعرفون أين يجدوه..السوق، حيث يفترش ركنه الأثير ذاك ، والمسجد ، يوم الجمعة المباركة،حين يلبس ثوبه الأبيض الوحيد، ويذهب إلى الجامع في وقت مبكر قبل الآذان، ولايختار إلا الصف الأخير ليصلي فيه قريباً من باب خروج المصلين .ما أن ينتهي من صلاته حتى يسارع إليه ويفرش عمامته،وسرعان ماتمتلىء بالقطع النقدية الصغيرة.الشيء الوحيد الذي كان يتضايق منه دون أن يشكو لأحد، أن الجامع كانت له عدة أبواب ينسل منها المصلين دون أن يمروا به، لكنه كان يعزي نفسه بالقول ؛"من يريد أن يضاعف الله له الأجر عشراً، يعرف مكانه ".وفي غير هذين المكانين لم يره أحد...
 ثم فجأة لم يعد الناس يتصدقون مثلما كانوا يفعلون ..! قلَّ مافي أيديهم من مال، فلم يعودوا يأتون إلى السوق إلاّ لِماماً،وقَلتْ أعداد الذين يأتون للصلاة في الجامع، وألحق هذا الخسارة بدخله المحدود أصلاً..كثرت المظالم ، واضطر كثير من الناس أما للصمت الرهيب ، او للسفر إلى بلاد بعيدة خوفاً، اوبحثاًعن مصدر رزق .
عبءٌ ثقيل وقع على كاهل جعفر لم يقو على تحمله. ليال طوال مرت لم يذق فيها طعم إثنين ..الطعام والمنام ! لم يكن بوسعه أن يسلك مسلك الناس ، لافي السفر ، ولا الصمت ..! وهذه المأساة التي نكب بها هي التي حركت في صدره طاقة الغضب التي صرخ بها لسانه وصعق لها السوق: "ضيقها يارب!"فسارع كل من في السوق إلى الإستهجان ، والإستغراب والإستغفار..
 رجل واحد تجرأ وتقدم من جعفر وقال له : 
 - عليك ماتستحي..ماتخاف الله ياجعفر؟
 كررها مِراراً دون إرتباك ، ولم يكن أحد غيره قادراً على ذلك .الشيخ صالح إمام الجامع ، مركزه الديني ، ومكانته عند الناس،وحب جعفر له.كل هذا كان يسمح له بذلك.سرت كلمات الإستحسان من كل مكان تقريباً ؛لله در الشيخ صالح ، رّيّال مصلي صائم ويعرف الله ، ماهو كما ذا المغروم يعفر !
 البعض توقع أن يكون جعفر عنيفاً مع الشيخ صالح بعد ماقاله،ومنوا النفس بقرب نشوب معركةبين الرجلين لم يشهدوا مثلها من قبل .
جعفر أقبل على الشيخ صالح ، تقدم منه ، وهمَ بتقبيل يده كما تعود ، لكن هذا سحب يده بسرعة، فتبسم جعفر إبتسامة لم يروا أمكرمنها وقال بصوت هاديء:
 - ياحيا بالشيخ صالح ..
 شعر الناس بخيبة أمل ، وبتبخر المعركة التي كانوا يتوقعونها بين الرجلين ، لكن بعض الأمل عادلهم عندما سمعوا الشيخ صالح يقول :
  - لاحيا بك ولاسهلا.. 
 وأضاف:
 - لواه تدعي ع الناس ..؟!
 مستمراًبنفس هدوئه المستفز والمخيب 
قال جعفر : 
 - ياويه الخير ..نامادعيت على حد !
الشيخ صالح دون أن يغير حدة غضبه وصوته : 
 - رجال كبير كماك ، سميح رميح وتدعي على الناس ؟ ماهو كفاية الحال اللي هم فيها ..
 ودون أن يترك له فرصة ليدافع عن نفسه واصل :
- وزيد عاد تدعي عليهم أن الله يضيقها ! بدل ماتدعو لهم أن الله يفرّجها على الناس ! واه من مصيبة بغيتها تقع فوق الناس أكثر مما هم فيه ؟..واه من مصيبة؟!!
 لكن جعفر ظل على هدوئه ولم تستفزه كلمات الشيخ صالح القاسية :
 - انا مابغيت إلاَّ الخير للناس ..هم أهلي وناسي ..
 الشيخ صالح الذي لم يستطع صبراً على هدوء جعفر واصل هجومه : 
- واه من خير ..واه من خير؟ تدعي ع الناس بضيق الحال ، وتقول بغيت لهم الخير ؟ واه من خير ياجعفر ..واه من خير ؟!
 قال جعفر :
 - تخبر نفسك ياشيخ صالح ؛ تخبر نفسك !
 واستفزه سؤاله أكثر فقال : 
- انا اتخبرك انت..جَوِب ! واه باتقول ؟ جوب ، الظاهر مامعك جواب!! سمع
 الناس..سمعهم !
 وهمهم الناس :
 - يّوب ، قول ، يّوب على الشيخ .
 فرد جعفر :
- إلاّ معي يّوّاب! اسمع ياشيخ صالح ، اسمعوا كلكم ،والحاضر يبلغ الغائب. وعندما رأى كل الوجوه مشرئبة إليه  باهتمام واصل الكلام:
- كمين سنة وانتم على هذي الحال ؟ وكل يوم تصبحوا على مصيبة اكبر من اختها؟ ولاواحد منكم يقدر يقول للبلوى يا بلوى لبوش الكُبة، بتي من هنا..كي عرحد يقول! لواه ساكتين ؟ حد يقدر ؟!!  
 لم يسمع جواباً، وأساساً لم يكن ينتظر منهم ذلك ، لكن رآهم يصغون إليه باهتمام مايعني الموافقة على مايقول ، وشجعه هذا على مواصلة مابدأه:
 - بغيتوا الصدق ؟ حالكم يصعب على الكافر ! انتم بغيتوا ذاك اللي ساكن في الحصن الأبيض يييب لكم الحل؟..لاوالله ماهو داري بكم ،بغيتوا الصدق ؟ محد غيره ورا البلاوي هذي كلها ...!
 تكومت خلف الأفواه همهمات كثيرة، لم يستنتج منها جعفر إن كانت مؤيدة ، او مستنكرة ، او خائفة، لكنه وجدهامشجعة ليواصل كلامه :
- الشيخ صالح تخبرني لواه قلت ؛ ضيقها يارب ! هيا اسمعوا يّوابي كلكم ، وانت ياشيخ صالح اسمع.أنا لما شفت حال الناس ضاق يم ، قلت لعمري ؛ يايعفر الناس أحوالها ماهي كما أول ، وكل يوم حالهم من عيف إلى خس منه ، وصاحب الحصن الأبيض، ماهو سائل على حد ، يحبس الناس باطل ، وناس يم هايرت، نكد على الناس الله ينكد عليه، حتى الصيد هاير مع من هاير ، حتى يعفر المسكين قطع .....
 واحد من الحاضرين قاطع جعفر ،وكانت تلك أول مرة يتكلم فيها :
- ياجعفر ، واه بغيت بالكلام ذا اللي يوجع الرأس؟! واه لنا من دعوة بصاحب الحصن ؟ الله يرضى عليك ، خلينا في حالنا ، وماسيبنا من حد !
  وقال آخر : 
- الناس طول عمارها في حالها.. ماسيبها من حد ! لكن عيال إبليس ماهم مخلين الناس في حالها ياجعفر!!
 التفت جعفر إلى صاحب الصوت فعرفه وخاطبه باسمه : 
- يابوسالم ، انكنك فزعان على عُمرك ، اييلس في دارك !
 فرد هذا :
- وعلى واه نخاف ؟
فعلق جعفر :
- قلت ، خاف ! ان بغيت الصدق ، كل شيء يخوف.ياللا الواحد يقول الأسعار غليت،أو مافي أمان، تاني يوم ماتلاقيه في بيته !!!
 - ياجعفر خيرة الله عليك ، انت رجال لامعك حُرمة ولابُرمة، ولاولد ولاتلد..لكن نحن ورانا عيال ..
 قال هذا واحد آخر من الحاضرين ، فعاجله جعفر :
 - اللي مابغى يسمع كلامي ، يبت داره.
كلكم من أصحاب ماسيبي، ماحولي ، وعيال إبليس،يلعبوا بكم لعب ...
 فقال الشيخ صالح الذي كان منصتاً طوال الوقت،في محاولة منه لإعادة الحديث إلى مجراه السابق حتى لا يتورط جعفر أكثر من ذلك ويورطهم جميعاًمعه: 
 - ذلحين ، ياجعفر، مالنا ومال عيال إبليس، نحنا في الهرجة لي ماهي سوا،
 - واه من هرية ياشيخ صالح الله يهديك ؟
 - اللي هرجت بها قدام الله وخلقه ..
اجابه جعفر :
- ياشيخ صالح ، الله يهديك. انت ريّال كبير ، عاقل، وتعرف الهرية..بسألك ياشيخ صالح الواحد لما يضيق به الحال واه يقول ؟!
- يقول فرجها يارب .
- وان ضاقت يم 
- فرجها يارب .
- وان ضاقت يم ..يم 
- برضه يقول فرجها يارب ..
 فصاح جعفر: 
- لا..ياشيخ صالح، لما تضيق يم ، يم ، والقلب يورم ، مالهاشي، مالها تقول إلا ضيقها يارب..مافري إلا بعد شدة.. 
بهت الشيخ صالح كالمأخوذ:
- ونعم بالله..صدقت ياجعفر، ماضاقت إلا وفرجت ..
  ضاء وجه جعفر بأسارير لاحصرلها، وبدأ قطعة نور، وأيقن انه طالما كسب موقف الشيخ صالح فقد كسب الجولة. وإذ رأى الناس ذلك ،أمنوا على كلام الشيخ بهز الرؤوس،فاستغل جعفر الموقف قبل أن يفلت منه،وصاح بأعلى مافي حبال صوته :
 - ضيقها يارب!
صرخة ..صرختان ، ثم دوى السوق بصراخ كل من فيه،بما فيهم الشيخ صالح:
 - ضيقها يارب ..
 وصوت جعفر وحيداً. 
- الآن ، اقدر اقول ، ف ر ج ها يارب
  قالها من كل قلبه وكررها عدة مرات ، ، رافعاً يديه إلى السماء..وضغط على حرف الجيم بكل قوته وكأنه يريد التأكد بأنه لازال قادراً على نطقه .
_______________
* أينما يرد حرف الياء في حوار هذه القصة مقصود به جيم ، كما ينطقه أهل حضرموت مالم يكن ياءًا بالفعل .
* بَت : راح او ذهب .