بسيطة....!"
القات والأوهام وأشكاله المتعددة فاجأته عصراليوم كلها دفعة واحدة فأستسلم لإغرائهاولم يحتفظ بها لنفسه بل فجرها أمام من في المقيل:
- صحيح انكم تعدون لتعديل وزاري ؟
ولما كان يُعتقد بأنه لايهتم بمثل هذه الأمور،لم يلق أحدٌ لسؤاله بالاً،لكنه عندما كرره عدة مرات،أضطر صاحب الديوان غير راغب تقريباً،للقول أن همساً يدور لكن لم يتحدد شيءٌ بعد...
وكأنه تلقى تأكيداً بالإجابة لم يتأخرفي طرح مايريد :
- مارأيكم دام فضلكم، لوأقترحتم عليهم إسمي؟أنت رجل مهم وكلمتكم مسموعة فوق !!
وشخص بعينيه واصبعه السبابة إلى أعلى ، وذهبت عيون الحاضرين إلى حيث أشار..
دفع صاحب الديوان بصره ناحيته، ولما كان يشكك في جديته فقد هدأ من حدة دهشته:
- وزير..! مرة واحدة ؟!
السؤال فيه غرابةلم تعجبه فقال :
- طبعاً..وماذا في ذلك ؟
انتقلت العيون إليه حيث كلماته تمنح وجهه مزيداً من الجرأة، والبعض اعتبرها صفاقة..
- هذا منصب خطير ، وأنت رجلٌ على قدر حالك !
شعر بأنه أُهين، وكاد يرد بالمثل، لكنه خشي أن يُطرد قبل أن يعبر عن مبتغاه، فاستعار صبراً جميلاً وابتسامة موزونة، وأشار بترتيب إلى عدد من الوزراء كان يرى نفسه أفضل منهم .
تجمدت الوجوه، وكادت تقع مشادات بينه وبين من كان حاضراًمنهم ، لولا أن المضيف امتص غبار غضبهم،بابتسامته ، وامتدح نضالهم وكفاءتهم ببضع كلمات سرعان ماتحولت إلى إشراقات باسمة على وجوههم، واختتم مديحه:
- لن نجد افضل منهم مهما بحثنا ..
خشي الرجل الطموح أن يفقد المعركة التي بدأها للتو، فلم يؤمن على ماقاله المضيف،وأخذ يشير إلى فشلهم بدليل الأزمات الخانقة التي يعاني المواطن منها في كل المجالات تقريباً، فعادوا مرةأخرى إلى امتطاء صهوة الغضب والاحتجاج،
الذي امتصه بهدوئه وابتسامته مضيفهم الذي كانوا يحترمونه جداً، فغرقوا في جبروت الصمت على الرغم من رغبتهم في إيقاف الرجل عند حده، لكن أحدهم لم يقدر على كبح صمته:
- انت لست مُناضلاً حتى...
فاستدار إليه :
- تقصد أنني لست قاتلاً..
فتحسس هذا وبعض الحاضرين مسدساتهم ،واشتعلت الرقعةالملأبالدخان وجمر الأرجيلة المتوقد،بهمهمةالإستهجان
التي يصعب تبين الأفواه التي تخرج منها، وصبوا جام عيونهم وغضبهم عليه بقسوة تهدد بحدوث ماهو مريع،لكن المضيف الذي امتص كل توتراتهم حتى الآن بسعة صدره وقدرة مدهشة يحسد عليها أشار إلى أن الرجل لايقصدإهانتهم ،ولايشير إلى أحد منهم بعينه، وأومأ إليه أن يسكت متمنطقابدفاعه عنه،لكن هذا لم يجد مايدعوه لتغيير موقفه خاصة انه كان يعتقد نفسه في موقع هجوم متمكن ،فبدا متمسكاًبرأيه،وصعدمن خط هجومه وكأنه يستفز بعض الحاضرين تحديداً:
- ليس هناك مايدل على وجود مناضلين بيننا ، يوجد قتلة أصبحوا وزراء ! وقبل أن يفيقوا من هول المفاجأة التي لم يتوقعوها، حتى عاجلهم :
- كانوا من الخسة أن أطلقو االنار على رفاقهم من الخلف لكي يكونوا في موقعهم الحالي ، وينسبوا لأنفسهم بطولات ضحاياهم !
عند ذلك تكهرب الجو أكثر، تبادلوا النظرات في حيرة وارتباك بينما ظل المضيف على هدوئه،وقبل أن يطلب منه أن يكف عن تعليقاته اللعينة اكمل:
- هذا على الأرجح التفسير الصحيح، هكذا يصبح القتلة وزراء!
عند هذا أراد المضيف استغلال الفرصة المواتية فقال له:
- طالما تفتقد إلى هذه الموهبةفماحاجتك
لأن تصبح وزيرا؟!
- اعرف ان للنضال دخلاً كبيراً ..لكن عندنا كل من أطلق رصاصة يريد وزارة !! واكمل وهو يتعمد إسماع صوته للجميع :
- أنا أريد ان اكون وزيرا لدافع آخر..
فسأله المضيف :
- ماهو ؟
-حتى لانترك العصابات تحكمنا ...
عند ذاك علت وجوه القوم سحب الانقباض الممزوج بالغضب ، واحس البعض مرارة القات كأنه العلقم، وأخذ يغالب الرغبة في أعماقه للإنسحاب لولا خشية أن يعتقد بأنهم المعنيون بكلام الرجل وقتلوا رفاقهم بالفعل ! والبعض كاد يركبه جنون الأيام الخوالي وكاد يخرج مسدسه ليرمي هذا " المتطفل " برصاصةولكنه استخسر فيه ثمنها..!
لكن المضيف الذي نجح حتى الآن في الاحتفاظ بهدوئه وامتصاص غضبهم خطرله سؤال الرجل على سبيل الفضول والمجاراة:
- لو حدث..أقصد وأصبحت وزيراًماذا ستفعل ؟
- هل تظن الأمر صعباً..؟
فوجيء المضيف بجوابه لأنه كان يعرف أنه لم يتلق إلا حظاً قليلاً من التعليم ، وسجله خال تماماً من شغل الوظائف العليا، وليس له على حد علمه من موهبة اوتجربة،ولاينتمي إلى حزب أوجماعة، وكل اهتمامه بالسياسةرغبته المفاجئة التي ظهرت فجأة اليوم ، وبالكاد يشعر بوجوده اوصوته أحد، لهذا بدا له إصراره غير مفهوم ومع ذلك حاول أن يجاريه ليضفي نوعاً من المتعة على المجلس المكهرب :
- افرض إنهم عيّونك وزير داخلية..ماذا ستفعل ؟
- بسيطة ..!
- كيف بسيطة ..هذا منصب خطير والأمن حاله كما تعلم ..
- الأمر بسيط، سأقول للناس أدخلوا بيوتكم آمنين !
ضحك المضيف،وتبعه البقية:
- ولو عيّونك وزير خارجية؟
- بسيطة! اطلب منهم ان يخرجوا منها بسلام ..
واستمر المضيف والحضور بالضحك ، وعاجله أحدهم بسؤال آخر كأنهم يلهون وقد نسيوا غضبهم بعض الشيء:
- وماذاعن وزير زراعة ؟
- بسيطة ! اقول لهم من لايزرع لايحصد .
إذا تصحرت الأرض تموت الحياة...!
لم يكونوا يتوقعون الرجل حكيماً إلى هذا الحد ، ومع ذلك استمروا في السخرية منه:
- ماذا عن وزير الدفاع؟
علق أحدهم:
- لا لا..هذا أخطر منصب ، ولن يقدر عليه.
لكنهم فوجئوا به يجيب :
- وهذا أيضاً بسيطة،أقول لهم؛ وطنٌ لانحميه لانستحقه!
- ماذا عن وزير الإعلام..هذا منصب لايحتاج إلى موهبة او خبرة ويناسبك،
ماذا قلت :
لكنهم فوجئوا برفضه القاطع عندما قال :
- كل العالم ألغى وزارات الإعلام إلا عندنا..
سألوه :
- لكنها موجودة ، فماذ قلت ؟
أجاب:
- هل تريدون الحقيقة؟
- طبعاً ..
- لا أريده، لاحاجة لي به ..
بنفس واحد سألوه:
- لماذا ؟
- لا أحب الكذب !!
واستمروا في عرض بقية الوزارات عليه ،وهو يقول بسيطة، حتى لم يبق إلا منصب رئيس الحكومة، وحين عرضوه عليه لزم الصمت ولم يشعر برغبة في تولي المنصب ، بل بشعور عميق أن يبقى مواطناً إلى الأبد من أن يكون عضواً في زمرة القتلة وما أكثرهم...!