شكيب جُمن.. "أمير الكمان"...
اظن ان ذلك الطفل الذي ولد في نفس العام الذي ولدت فيه 1949م ، وانتقل إلى العالم الآخر عن 42 عاماً،مات بجلده الطفولي،طفلاًلم يكبربعد ...! لكنه حين مات،كان قد ملأ الدنيا بصوت كمانه الذي التصق وشغف به آذان مستمعيه في لحظات عزفه المذهل في سنوات عمره القصير،ممزوجاًبكل أحاسيسه ومشاعره، مستمعاً إلى تلك العوالم التي لايسمعها الآخرون، تحت أجمل سماء في العالم ...سماء عدن.
2
ولد شكيب في شِعب العيدروس في مدينةكريتر - عدن، في واحد من أقدم وأشهر أحياء عدن،الذي استمد إسمه وشهرته من مسجد العيدروس الذي بناه في سنة 1485م الشيخ العلامة ابوبكر بن عبدالله ابي بكر العيدروس المولود في مدينة تريم بحضرموت في العشر الأوائل من ذي الحجة سنة811هجرية ،والمتوفي في عدن 1508م، وتقام له زيارة سنوية في يوم دخوله عدن في 13 ربيع ثاني 889 هجرية. ولاشك ان شكيب شهد العديد من تلك الزيارات والمظاهر الاحتفالية التي تصاحبها، من محفل ، واناشيد صوفية، كما انصت من أعماق روحه إلى أصوات الأذان وهو يعلو خمس مرات كل يوم من مئذنة مسجد العيدروس .
3
وفي العام الذي ولد فيه شكيب، كانت عدن المدينة الأكثر عالمية في شبه الجزيرة العربية، وثاني ميناء في العالم بعد نيويورك ، واحد أكبر الموانىء إزدحاما لتموين السفن بالوقود ومركزا للتسوق والتجارة في العالم ..مدينة للتعايش العالمي بين مختلف الجنسيات والأديان والثقافات،تمارس فيها عباداتها وموسيقاهاوفنونها ورقصاتها بكل الحرية والتآخي الإنساني .وشهدت نهضة في التعليم والادارة والثقافة والصحافة ونشأت فيها الإذاعة سنة 1954، وكان لايزال طفلاً في الخامسة من عمره، لكن حين بدأالتلفزيون إرساله سنة1964م ، كان عمر شكيب جمن قد بلغ اربعةعشر تقريباً،فصار حلم حياته أن يكون نجماًفي هذا الاختراع الساحر ...
كانت أولى الفرق الموسيقية قدأُسست في عدن منذ نهايات أربعينيات القرن العشرين الماضي بدءً ب"ندوةالموسيقى العدنية" التي أسسها الشاعر محمد عبده غانم،والفنان خليل محمد خليل، وعبدالله حامد خليفة،وعازف الكمان عبده احمد ميسري وياسين شوالة، ووديع حمدان، ثم الرابطة الموسيقيةالعدنية التي كان من أبرز نجومها الفنان سالم احمدبامدهف ، بعد انفصاله من الندوة،وأسس الفنان أحمد قاسم فرقته التجديدية التي اطلق عليها اسمه.وقد لفت شكيب نظر الفنان أحمد قاسم حيث بدأيقف شكيب الصبي ذو البنية المكتنزة خلف هذا العملاق في حفلاته وهو يتوشح آلة الاكورديون على صدره .
4
نشأ شكيب ممتلئاً بالموسيقى، مغرماًبالعزف والرسم، واقعاً في سحر هذه المدينة الممتلئة بالحياة،فأحبها من أعماق الروح بكل جوارحه.
عن هذه الطفولة يقول شقيقه عدنان جمن: منذ نعومة أظفاره كان مهتماً بالموسيقى والرسم، ولفت اهتمام مدرسيه بقدرته على الرسم وكان ذلك سبباً ليلتحق بالثانوية الفنية، ولكن كراسات المدرسة امتلأت بأشجار النخيل وصور المراكب الشراعية التي سلبت مخ
شكيب الصغير..
5
إلتحق بالفرقة الوترية التابعة للجيش في أوائل حياته العملية ثم تحول للعمل في التلفزيون بعد عدة سنوات،وهذا كان حلم حياته الذي استطاع تحقيقه أخيراً.
شكيب جمن كان مريضاً بالموسيقى، مسحورا بالعزف الدائم على آلة الكمان ، التي سرعان ماتعلم العزف عليها بعد الاكورديون،والعجيب إنه كان يبدي براعةغير عادية في كل آلة يعزفها ، فتعلم العزف على العود وبقية الآلات الموسيقية، ولم يكن يأخذ منه ذلك الوقت الكثير،وسرعان ماأصبح أهم عازف في البلاد، ولكن البلاد لم تأبه به حين داهمه مرض السكر وهو لم يبلغ الثلاثين من عمره ،ولم تأبه له حين مات بالغريغينا، فلم تمنحه ميدالية الفنون في عيد العلم ،لأن العيد نفسه كان قدأُلغي ، والعِلم نفسه لم يعد له وجود، ولاحتى الدولة التي سنت هذا العيد السنوي الذي كانت تحتفل فيه في العاشر من سبتمبر كل عام ،وتكرم فيه المتفوقين في سائر العلوم والآداب والفنون !!
6
هاانذا انقل من عدنان جمن بعض ماكتبه عن شقيقه :
●في وقت مبكرمن سبعينيات القرن الماضي قام شكيب بتكوين فرقته الموسيقية الخاصةمن أمهر العازفين وأسماها فرقة (الأنامل الذهبية) وقد أقتطع قيمة شراء آلات الفرقة من لحمه وصحته، حيث بدأت أعراض مرض السكري تُداهمه قبل بلوغه الثلاثين من العمر،وربما بسبب بدانته الزائدة حينها، وهذه الفرقة كانت تقدم خدماتها في الحفلات الخاصة التي كانت تقام في مجتمع عدن آنذاك، مثل حفلات الزواج وأعياد الميلاد وما شابه، كانت الفرقة تمارس تدريباتها في الشقة التي استاجرها في شارع الملكة أروى التي انتقل للعيش فيها أواخر الستينيات من القرن الماضي، مع السيدة والدته واخوته الثمانية من بيتهم الارضي في ِشعب العيدروس،يقول شقيقه الفنان التشكيلي المعروف عدنان جمن الذي انقل عنه هذه المعلومات ان "أمنالم تكن تتذمر من تدريبات الفرقة في الشقة، وشكلت الفرقة مصدر دخل إضافي للأسرة التي كان شكيب عائلها الوحيد بعد وفاة الوالد عبده أحمد جمن" .
●تحصّل شكيب على دورة فنية قصيرة في القاهرة وكان من أوائل من أدخل النوتة الموسيقية إلى فرق عدن الفنية.
● خلّف شكيب إرثاً فنياً ضخماً رغم عمره القصير، فقد لحّن العديد من الأغاني للأطفال، وساهم في تصميم العديد من ديكورات التلفزيون وأعد الكثير من البرامج، وكان موهوباً بالكهربائيات والأدولات الموسيقية الالكترونية، ومن أوائل من أدخل آلة الأورج الكهربائي لعدن وكان يمتلك آلة كمان من أندر الآلات التي صنعها أحد العباقرة الإيطاليين بالإضافة لآلات هندية غريبة أقتناها خلال رحلاته الفنية لدول العالم.
● في الأيام الأخيرة من حياته اشتدت عليه مضاعفات مرض السكر الذي تطور للغرغرينا مما أدى إلى بتر أطراف أصابع قدميه.
●توفي شكيب أحمد عبده جمن في16 أغسطس1991م فترك غصة في القلب وفراغا يصعب تعويضه.
7
سنة1960ذهبت برفقة أبي، لزيارة اخي الأكبرفرج في الدُكان الذي يعمل فيه في ِشعب العيدروس.لم يكن الحي بالراقي،
كان حياًشعبياًبسيطاً،لكنه جميل ونظيف، ويضج بالحركة والحياة وسكانه مزيج من الفيسفساء.. من جنسيات واديان وثقافات متعددة ومتعايشة، شأنهم شأن سكان عدن،لكن شِعب العيدروس كان يستمد سحره من مسجد العيدروس حيث ولي الله ، الذي له أسراره وحب عامة الناس له ويأتون للتبرك بمقامه ..!
يصعب الآن أن أتذكر إذا كان الطفل المكتنز الذي رأيته برفقة والده في تلك الزيارة يتبضع من دكان أخي فرج،هو نفسه شكيب جمن الذي صار بعد سنوات أشهر من نار على علم،لكن أتذكر جيداً بعد كل تلك السنوات الطويلة،انني قرأت في سجل الدُكان اسم أحمد عبده جمن ، ولم تتسنى الفرصة لأسال شكيب عن ذلك في اللحظات القليلة التي ألتقيته، إذ لايمكن أن يتذكر هو الآخر لحظة خاطفة كتلك،لكني كنت كغيري استمتع بعزفه الخرافي للكمان .كذلك لم تتح لي فرصة سؤال أخي عن الموضوع بعد أن انتقل للعمل في الحديدة، ونسيت الأمر نهائياً حتى تداعى شريط الذكريات، ونشطت فصوص ذاكرتي لحظة الكتابة هذه عن شكيب،فتذكرت الطفل الذي رأيته أول مرة في دكان أخي في شِعب العيدروس، حيث ولد وترعرع السنوات الأولى من عمره كما عرفت فيمابعد مما كتبه شقيقه عدنان .
8
كان شكيب أودع من طفل،حتى ملامحه كانت طفولية، وبراءته ايضاً، وطيبته ، كان طيبا جدا جدا ، بل أطيب من الطيبة.
لهذا لاغرابة انه كان منجذباً للأطفال، أحبهم من أعماق روحه،وكرس حياته ، ،وفنه،وموسيقاه لهم.فقد وجد نفسه ولما يبلغ العشرين من عمره بعد، يفيق على فجيعة موت ابيه، (أباً!)لثمانية من البنين والبنات، هم إخوته وأخواته الذين أصبح الآن المعيل و المسؤول وكل شيء في حياتهم .هكذا وجد نفسه دون سابق إنذار ولا إعداد ، مسؤولاًعن ثمانية أرواح وأمه...مثقلاً بهموم تنشئة وتربية هذه الأنفس التي تحتاج إلى كل شيء، فتحمل المسؤولية برحابة صدر،دون شكوى رغم أنها لم تكن سهلة .
9
لم يخيب الأطفال شكيب مثلما أصيب بخيبة أمل من الكبار ! لهذا عندما بدأت فرقة الأنامل الذهبية "تتفكك" بتفكك أعضائها، منهم من سافر للدراسة، ومنهم من "تكبر"على شكيب وهجره،وجد العِوض في التركيز على برامج الأطفال والاحتكاك بهم أكثر من ذي قبل، وظل حتى سنيه الأخيرة يجد فيهم الوفاء والعرفان أكثر من الِكبار.لكنه كطفل كبير لم يحقد على أحد ممن تركوه، أويحمله مسؤوليةخسارة فرقته.!
كان يجد سعادته مع اثنين:الأطفال، و كمانه عندما يخرجه من صندوقه،ويبث كل شوقه وحزنه على أوتاره، فتصدر أنامله تلك النغمات الحزينة والمنكسرة التي تثير دهشة الجميع،وتتدفق كشلالات ماء صافية، فننصت إلى هديرها الجميل وهي تتساقط وتنساب إلى ارواحنا بعذوبة.
هنا فقط كان يتجلى غرامه كعازف يحب الموسيقى والطفولة،ولم يكن هناك مايفرحه أكثر من هذين الإثنين .
10
شكيب جُمن ..كمانه غاب ، ربما اندفن تحت كومة رائحة دخان الحروب والدماء التي تملأ المكان!
بعدك لم نعد نسمع سوى طغيان اصوات الرصاص، وأنين الجرحى، وبكاء الثكالى والأيتام ورائحة الموت المتنقل ..
نشتاق إليك أيها الطفل الذي يعيش فينا ..نشتاق إليك يانبع الحنان والطيبة...
أيها "الصابر" -كما هو بالفارسية- معنى اسمك،فكان لك منه نصيب. الصبر على عظم وجسامة المهمة، والصبر على الجحود ونكران الجميل،والصبر على آلام المرض والجسد...وربما أطلق عليك والدك شكيب، تيمناً ب "أمير البيان" شكيب أرسلان، فكنت أمير الكمان !