عدن و أرض المحشر
مع كل البدايات الصغيرة في دنيتنا الفانية، ظهرت عدن كغيرها من البلدان على البسيطة،
لم تظهر فجأة من تحت الرمال بل قبلها تكونت بعض البلدان.
بدأ دبيب الحياة على الأرض، و تكونت المدن، و ظهرت اقدم الحضارات في التاريخ سومر في العراق، و هناك في جنوب جزيرة العرب تشكل الجنوب العربي، و في أحشائه الغربية ظهرت عدن على بحر العرب و البحر الأحمر، و بحكم هذا الموقع اصبحت عدن تتحكم في التجارة البحرية، هذا الأمر جعلها من أهم موانئ العالم.
و مثل كل المدن في الدنيا تطورت عدن العاصمة، و تم نشوء مدن فيها، و ظهر عليها التطور الطبيعي للنشاط التجاري بسبب مينائها، و بدأت عدن تنمو بإزدياد عدد الوافدين اليها من كل الأصقاع، و خاصة من جيرانها في الأرياف.
في الشمال الشرقي من عدن ظهرت الشيخ عثمان في القرن السابع عشر، و تم تسميتها هكذا تبركاً بالمزار الديني فيها للشيخ عثمان بن محمد، الشيخ عثمان كانت و لا زالت جاذبة للقادمين الى عدن، و هي اكثر مدن عدن إزدحاماً.
كان فيها شارع يسكنه اناس متحابون لبعضهم متعاونون، و في أحد اركان ذاك الشارع كان يوجد منزل صغير رقمه 32/1c، في هذا المنزل وُلد كاتب هذا المقال في العام 1952م، و يوم ولادتي اصبت بمرض حميد لم أشفى منه حتى الآن، و هو الحب لمسقط الرأس.
كبرت كثيراً، و كبر معي حبي لمسقط راسي.
قررت زيارة عدن في 2013م، كنت متشوقاً لعدن، لهذا كنت اول الهابطين من الطائرة، و كنت اتوقع ان شنطتي ستكون الأولى و لكنها تأخرت كثيراً، و لا اعرف السبب!!
تفاجأت ان صالة القادمين مزدحمة جداً، عدد الموظفين و الحمالين أكثر من الواصلين، و الجميع يرمقوك و يوزنوك بنظراتهم إن كنت كريماً او بخيلاً، كذلك يمتحنوك عن بعد إذا كنت تحب النظام او المداهفة، فحقيبتك لن تصل إلا بإرادة الحمالين و إلا ستنتظر حتى قيام الساعة.
بدأت اتسائل كيف دخل كل هذا البشر الى صالة القادمين في المطار؟
انا سافرت كثيراً و لم ارى في صالات القادمين الا موظفي الشركات المتخصصة، فقررت ان اصمت و ان لا اتكلم و (يا غريب كون أديب)، أكيد الكبار ادخلوا الحمالين لإقتسام الأرباح معهم.
الذي دفع بهؤلاء الشباب الى صالة الوصول سر كبير و هو الفقر و الفاقة، و الفاقة تولّد البؤس الحقيقي، و عندما يصاب الشاب في مقتبل العمر بالفقر يصبح تلقائياً شقياً، و عندما يحل الفقر بشعب كامل يجعلهم في نكد و يجلب لهم الهموم من كل جهة.
الحمالون يتخاطفون لقمة العيش من المسافر قبل أن يخطفها غيرهم من الحمالين، لعل أحدهم يفكر بحبة الدواء أو حقنة الانسيولين لأمه المريض، أحسست انهم بؤساء و لكن فيهم روفلات كذلك، و فجأة اقترب مني من يحمل شنطتي:
- كيفك يا حاج، مالك مبرطم؟ شوف عندنا الكبير ياكل الزغير، و الزغير يسرق الكبير، و انت و شطارتك في هذا المجتمع، ثم اشار الى شنطتي التي يحملها!
- مش دي شنطتك ياحاج؟
احسست انني لم اعد قادراً على الكلام، فهززت رأسي له بالإيجاب.
- هيا تمام، اعطينا 500 حق القات، و الله اننا جبته لك من داخل !!..
كنت مُتصنماً، و خائفاً ان اسأله كيف عرف انها شنطتي؟ و لكن فضّلت الصمت، اعطيته ما طلبه، إبتسم و سألني:
- من فين انت يا حاج ؟
- من عدن
و فجأة رأيت مسحة حزن على محياه، و قال لي:
- ايش جابك لعدن، راح زمانها.
و فجأة و بدون شعور رغم وجع عباراته عليا، تخيلت الفنان الراحل العدني احمد قاسم يغني لي:
- ايش جابِك لا سنى قلبي ملكتيه أسير
ايش خلانا احبك و الذي بايصير يصير
عدن هي الحياة، تصحى مع كل شروق شمس، و تخبر الساكنين قريباً من قاع صيرة ستخرج النار إيذاناً لنهاية الحياة على الأرض، و ستقود البشر لأرض المحشر.
حياطة و ياسين عليك يا عدن.