روح ثائرة
اشرقت الشمس على الانحاء، وانطلق سرب من الحمام باتجاه الحدائق التي غادرها اصحابها في الليل، وبدا الشارع العام نظيفا قد رفعت منه جميع المخلفات، ومرت
من جهة الشرق حافلة طالبات المدارس، وبدأت رائحة الشواء تزكم الانوف من المطاعم القريبة، وهناك في وسط الشارع، وقف رجل المرور بمهابة، ينظم حركة السير، ليوم جديد اشرقت عليه الشمس.
لم يكن الطريق سهلا_ كما يبدو_ امام العم ياسين، المتقاعد في الجيش، ليخطو إلى مكتب البريد ويودع رسالة مر عليها عشرين عاما الى اسرة الشهيد حاتم يخبرهم فيها كيف مات ولدهم ذو العشرين خريفا في الحرب،كان يقف بجانبه، عندما اخترقت رصاصة صدره وخر مغشيا عليه،لكنه كتم هذه الشهادة وكتم وصيته لامه التي يقول فيها:
((اسمع ياعم ياسين، ابلغ امي انني قد مت ))
وغفا على التراب المعفر بدمه،ومر عشرون عاما ولم يخبر اهله بوفاته، إلى ان جاء هذا اليوم، فكتب لهم هذه الرسالة:
(( ام حاتم: ابلغك ان حاتما مات هذه الليلة، فبعد إن بترت ساقه، لم يكن قادرا على الجري. تعلمين ام حاتم قدر حبي له، لقد نصحته بترك الجبهة، لكنه اصر على نيل الشهادة))
كانت المكاتب الحكومية قد فتحت ابوابها، وكان مكتب البريد يشهد ازدحاما شديدامن قبل المتقاعدين، وعندما قدم العم ياسين عليهم عرفهم بسيماهم فهذا احد ضباط الجيش يحييه ويسأله عن مشكلته ولكنه لا يفصح له بشيء ذي بال.
خطا العم ياسين إلى عامل مكتب البريد، وناوله الرسالة بيد مرتجفه، كان يعرف كل كلمة فيها، وكل عبارة، لقد كان يسوق الاحداث بشكل هين، ويعرض مساوىء الحرب، لقد كان عليه ان يقول هذا الكلام. قبل هذا اليوم بكثير، لكن ثمة مانع كان يمنعه، لقد كان الموت شيئا صعبا على المرء، لقد كانت تواتيه افكار، إن حاتما لم يمت وان روحه تناسلت في الجنود، فصنعت منها ذلك المجاهد الثائر. كانت تواتيه مثل هذه الافكار وتلح عليه ولهذا كتب في نهايه الرسالة:(( ان حاتما سيعود يوما ما ،يروي عطش هذه الارض)) وهكذا بدا فرحا، وهو يعود إلى منزله.