أمضيت قسطًا كبيرًا من طفولتي متشبثًا بعباءة أمي أرافقها إلى الزيارات والأعراس والمآتم ، كنت متعلقا بها كثيرا، وعندما كبرت قليلا تغير الأمر، صرت أرافق جدي للمسجد متشبثًا بعباءته البهية لحضور الموالد و الحضرات، أجلس بقربه أنصت له وهو يتلو القرآن أتدفأ بعباءته، ثم أسلمني جدي للشيخ، وهنا تغيرت العباءة قليلًا،كان شيخي بعباءته المزركشة المهيبة يرشدني ضمن تعاليمه أن أكون كالميت بين يدي مغسله، لايحق لي السؤال أو الاستفسار أو ربما التفكير والاعتراض، كان علي التلقي والتنفيذ فحسب، معززًا بخيزرانته التي لازلت أتحسس مواطن لسعاتها اللاهبة في جميع أجزاء جسدي، تمردت عليه وعلى عباءته وخيزرانته، فكنت ضحيته حين دخلت السجن، وكان ضحيتي حين أسلم روحه رغمًا عنه.
صحيح أنني دخلت السجن، لكني تحررت منه ومن تعاليمه البالية على الأقل، ولجأت إلى التفكير والتساؤل، ترى ماالذي يميز عباءة عن غيرها من القماش واللباس؟ حساسيتها، خفتها، خشونتها، رقتها، هل هي كائن من نسيج وخيوط؟ أيشعر هذا الكائن بصاحبه أو صاحبته؟
 بحنانه،بغلظته، وقسوته، وهل تحس بمايفعل؟  وهل تضم جلده بحنو ! أو تألف رائحته مثلا ! أم تشمئز منه، هل هي ضحية مثلي؟ مخدوعةأم خادعة ! 
ربما تحوي قوى سحرية أو ميتافيزيقية! لا أدري .
من هنا ترصد كوة السجن الكثير من صور الخارج الضاجة بالحياة، هاهن النسوة المتلفعات بعباءاتهن يلفهن السواد في ذهابهن وإيابهن قبل أن يبتلعهن الزقاق الحجري العتيق، القطط الشبقة في ليالي شباط بصراخها وعراكها وتنافسها المحموم للفوز بالأنثى، الصهريج المتنقل بمروره شبه اليومي يتهادى على مهل، والصبية بكركراتهم يلاحقونه، ويلهون بالماء المتسرب من مؤخرته، الحاوي المثقل عنقه بالسبح الغليظة يجر عباءة مهترئة تكنس الأرض وهو يصرخ بصوته الأجش : العبااااءة .. العباءة تستر، لكنها قد تحوي شرور الأرض فاحذرووا .. احذروووا. الأصيل المسفوح على أفق المدينة القاتم، يسيل ذهبه حين تغشاه عباءة المساء بتؤدة. كل ذلك ترصده كوة السجن الضيقة،أما هنا فالأمر يختلف جذريًا مع نافذة بهذا الاتساع، كلّت الحياة، وكلّتها، تكاد الحياة و الحركة تنعدم من أمامها تمامًا.
 مللت العد .. نعم مللت العد التنازلي لأيامي المنفرطة بلياليها الكئيبات. كمن حُشر في بوتقة ساعة رملية كبيرة، تسحبه إلى القاع من منفذها الضيق، فيمضي مبعثرًا مع ماتبقى من حبات الرمل المنسربة لبوتقتها السفلى.
هذا أحد المساءات الشتوية الكئيبة المطبق بظلاله وثقله على ثنايا روحي، لايكاد يختلف هو الآخر عن إخوته في الكآبة، 
فمنذ هروبي من السجن بتواطؤ مدبر إلى هنا  مستغلًا أوقات زيارات أهالي السجناء لذويهم متخفيًا بعباءة حريمية في وضح النهار، منذ ذاك وأنا لا أعلم حتى اللحظة كم المدة التي قضيتها في هذا المنزل الريفي القديم !
لايشق سكون هذا الليل سوى صرير الجنادب وتداعي نباح كلاب ضالة في الجوار، حملته الريح يتضاءل بخفوت متقطّع حتى يتلاشى تدريجيًا . 
وعلى استواء الأرض الضحلة المعشوشبة هناك، رصدت صفحة المستنقع قمرًا هاربًا قبل أن تخفيه ضفته الأخرى، راح يضفي سحره الفضي على كل هذا الجمود الجامح عبثا، هذا الكائن المتتطفل المُنار بضوء غيره، بينما جانبه الآخر معتم شديد الظلمة، كم يشبه رجل دين أفّاق، يتلفع بعباءة ليست من ثوبه،  ويتلون بجلد ليس بجلده، فتواريه سحابة مغيرة، عندما تلحظ أنه غير محتفى به في خضم هذا الفراغ المتناسل هنا، ثم ماتلبث أن تطلقه لحال سبيله، كأم توبخ طفلها حين فرغ للتو من فعلته، فيما بعض سحابات التبغ تتسلل هاربة تباعا في متواليات تراتبية من النافذة، لتنجو من هذا العدم إليه، 
 - كل هذا العدم الضاج السارح المارح أمامي، الوالج الخارج من النافذة المنخلعة ولا ألمحه !
  - النافذة .. ياللنافذة المنخلعة !
 هل كانت تلك النافذة تجتر لحظاتها المثقلات بخربشات من مروا بها إلى ملكوتهم بعد سنوات من العزلة؟
 - العزلة التي تشطر أيامي إلى نصفين متعادلين : نصف حي يتنازعه العدم, والآخر ميت متشبث بحافة الحياة، وربما كانت هذه النافذة منفذي الوحيد لرؤية فردية/جمعية مؤطرة، 
 - هل قلت رؤية جمعية؟ نعم جمعية، لأني الرائي الوحيد في هذه البقعة المعزولة عن العالم ،أنا الجمع والمفرد هنا, إلا من بعض الغوغاء، أجلس ملتصقا بمقعدي الخشبي خلف النافذة كمومياء محنطة مثبتة على وضعية الجلوس، لايليق بها السقوط، لطالما صرت ذاكرة متحركة/خاملة أرصد مايروق لي ومالايروق، أكيل بمكاييل عدة لأحفز ذاكرتي على البقاء بعيدًا عن زهايمر يترصدها، فبين نافذتي وذاكرتي اللتين ترصدان وتُصدِّران صور العالم الخارجي والوجود والجمود على ثقل هذا المكان وجثامته المحيطة بي.
صور متحركة حينا، ثابتة أحايين كثيرة، وربما خار البصر حائرا من هذا الثبات الروتيني كبؤبؤين تجمدا إزاء مشهد ختامي مهيب. 

 - من منا الحي الآن ؟
  - من منا الآخر؟ 
,- أنا أم نافذتي ! تساءلت 
 - هي منخلعة عن المكان المتخشب، وأنا منخلع منه وبه عن الحياة، هكذا أشعر ! أو هكذا أبدو !
  دُست قطعة جلد تآكلت أطرفها
حملها بريد مجهول حامله، برأيي أن من أوصله إلى هنا لايحمل حقيبة جلدية ببطانة بُنية، مملوءة بالمظاريف والرسائل، كما لايتزيا ببذلة يترواح لونها مابين الرمادي والأزرق النيلي، أويعتمر قبعة أنيقة، أو يستقل دراجة هوائية تسابق الريح ،أو ..
المهم دُست قطعة الجلد هذه من تحت الباب، وصلتني من صديق قديم، تفيد بدعوتي إلى حفلة تنكرية راقصة وحٌدِّد مكان الحفلة أسفل مخطوطة الجلد تلك
 : كثر الله خيره الوغد، تذكرني أخيرًا . 
  - ترددت قليلًا، ربما .. ربما كان فخ لإعادتي إلى السجن !
 - وإن يكن فالسجن أفضل حالًا من هذا المنفى الرتيب
فكرت مليا في اختيار الزي التنكري الذي سأشارك به،نهضت من فوري وسحبت من أحد رفوف الدولاب المهجورة ثوبًا باليًا، وعباءة سوداء، وعمامة، وخنجرًا ،ولحية حمراء عفى عليها الزمن فبهتت. 
وقعت من تحت العباءة نصف ورقة، تأملتها ! فإذا هي صك اشتراه أبي قبل أن أولد، يفيد بشركة استثمارية وهمية تزعمها رجل دين ثم أخفاها داخل عباءته، ولم تعلم حينها يمينه ماأخفت شماله. ذات مرة قال لي صديق طفولتي وهو يحدثني عن هذا الفعل الرهيب : أنه سمع أن رجل الدين هذا يمتلك ثقبًا أسود داخل عباءته، يخفي بها الشركات والأموال والألعاب والحلوى وكل شيء، حتى البشر ، فقد أخفى مرة حسناء ولم يعرف مصيرها ثم وجدت لاحقا مقتولة لديه. وتمنى صاحبي أن يكون مهرجًا ويتقن لعبة خفة اليد، ويمتلك عباءة مثله، يالصديقي الساذج، كم يبدو المهرجون ولاعبو الخفة حملان بريئة، أمام صاحب العباءة هذا - قدس الله سره - انتفضت وقرأت المعوذتين وتفلت إلى يساري ثلاثا، وفعلت كل شيء يمكنه منع شيطان من الحضور أو الاستحضار.

 أعدت الصك بسرعة فندت عن وجهي مسحة ابتسامة ذابلة، فرحت بأن خوارزميات ذاكرتي لازالت تجود بشيء من الماضي.

 كم يحدوني الحماس لخوض تجربة جديدة خلف قناع، ولكم أود معرفة نفسي في الحفلة التنكرية أكثر من اي وقت مضى، أعريها على حقيقتها، أجلدها، وأسلخها حتى العظم.  
تنكرت بزي رجل دين تغطي إحدى عينيه شارة سوداء، واكتريت أتباعًا من الهمج مسلحين بهراوات غليظة يحاوطونني من كل جانب، وأنا أمشي بينهم مزهوًا كطاووس تغمرني ضحكة بلهاء.
 ذهبت وهرّجت مبشرًا بدولة الخلافة، شربت كثيرا حتى ثملت، اعترض خطبتي شاب متنكر بزي فيلسوف وقور ،يدعو إلى المدنية والحداثة والعقلانية والمُثل العُليا، عندها استشعرت خطره يتهددني، وتلبسني الدور كشيطان، أكثر من تقمصي له، ونسيت أنني في حفلة تنكرية، فاستشطت غضبًا، وأمرت أتباعي بضربه حتى أدموه، صرخ بي يستحثني لأوقفهم وهم يسحبونه من ذراعيه على ظهره خارج المكان،
 : هاااااي ألا تتذكرني أنا إياد صديق طفولتك مابالك ! ألا تتذكرني؟ وذكرني بالأمارة: أمنية العباءة السحرية،وخلع قناعه لأتعرف عليه أكثر ، لكني لم أكترث له، فهنا لايصدق أحد كما لايكذب أحد أيضا، نحن هنا نفعل مايمليه علينا القناع وتوابعه فقط، نخلع إنساننا وضميره خارجا، وندلف كما يخلع نعاله مرتديها حين يدخل الجامع، ثم .. ثم هل يُصدَقُ أو يؤتمن جانبه من يتمنى امتلاك عباءة كهذه؟
 - ماذا عساه سيفعل بمن يخالفه؟
ساد هرج ومرج، وتدخل بعض الحضور وألقوا باللائمة عليَّ لإفسادي الحفلة، لكنني انسحبت بهدوء وسط هذه الجَلَبَة.
عند عودتي مجهداً من الحفلة، رميت بالزي جانبًا، وبقيت أتأمله طويلًا، مجيلًا نظري مابينه وبين الصك، حينها تذكرت أبي رحمه الله، رحل مخدوعًا ولم يجنِ شيئاً من ثمار هذا الصك.
مرت السنوات، والناس واهمون وانا أرمم نصف وعي مشطور، خدشته كرامة لم تهبط من السماء، ولم يبشر بها نبي حتى، وربما خلطت بين السحر والشعوذات والخوارق وخفة اليد.
 أما نافذتي فبعد شغورها لعقود، صارت تحوي مشاهد متحركة بكثرة، مشاهد لاتشبه البيئة التي صُرت جزءًا منها، منذ مدة ليست بالقليلة، وصارت ترصد كل هذه الصور الغريبة ببشاعتها ،فمن جماجم تتدحرج، وحواة يترددون على المكان، ولحى كيدية تُمسد بفجاجة، إلى بارود يفوح، وربما دخل إلي، واستنشقت شيئا منه، وقد يغمى علي لأعوام فأفيق ولاجديد، إلا من تلك العباءة التي لاتزال تتناسل صكوكا للعامة من البسطاء إلى جانب الغوغاء والحمقى من الأتباع ولاتزاال ...