لحج ...عبقرية المكان
تدهشني لحج في كل مرة اذهب إليها ..وعاصمتها الحوطة، متناهية الصغر والبؤس ..تنام على إرث من التاريخ والعراقة، فتنة الطبيعة وسحر الأغاني على الرغم من محدودية المكان .
تحس بإنك في حضرة السياق التاريخي الثقافي للعبقرية التي انتجت ذلك الإبداع الشعري الغنائي لفن الغناء في لحج فتزداد إعجابا بالمكان ..فتنة بهما.،لكنك لاتملك اليقين إذا ماكان هيامك هذا مصدره ذاكرة المكان المختزنة في وعيك الداخلي عبر زمن مضى ، ام اللحظة الراهنة التي لاتستقيم معها جسامة الإهمال الذي تراه ماثلا امامك في كل مكان وهو مالا يستقيم مع الذائقة المؤسسة ووعيها الغنائي .
تسير في شوارعها، طرقاتها، ازقتها، أسواقها العتيقة فتشعر ان الزمن قد عبر من هنا بعقب حديدية، فحفر آثاره الهمجية، ووشم تعابيره بقسوة على البيوت، الجدران، الأشجار، الأسوار، ومنعرجات الزواريب، لكنها ماتزال متشبثة بذاتها، بعناصرلها من جغرافيا وتاريخ وثقافة وفن لم تستطع كل العواصف ان تقتلعها، كما عجزت ان تقتلع الفلاح اللحجي عن طينه وارضه .
تتعمق في وجوه اللحجيين فيعصرقلبك الألم لما تراه من بؤسها ، فقرها ، شظفها ، ووطأة الزمن ، وفجيعتها في الواقع، لكن الدهشة تملأوك حين تجد "اللحجي " يتسامى على كل ذلك بروح النكتة واستحضار السخرية، والهيام بالقمندان وأغانيه التي يحفظها عن ظهر قلب للدفع عن نفسه ايامه الحالكة، والإستعانةبه على وجعه الإنساني .
المناعة التي اكتسبها اللحجي عبرالقرون منحته روح التحدي ، الصبر على المحن ، القدرة على التأمل ، في المنعرجات الحياتية، وعلى امتصاص الصدمات في مواجهة الواقع وصعوباته بالصبر .
منحته دلتا تبن الخصبة الزراعية، الإستقرار، ودهاء الفلاح وبساطته الإنسانية، وحفزت حاجاته واحلامه وطموحاته وقدراته الذاتية فتوهجت بالإبداع، فخلق فنونه ،رقصاته، إيقاعاته،واغانيه التي حاكى فيها الطبيعة ومشاعره الإنسانية، وارتقى بها إلى ان غدت ذلك اللون البديع الذي نطرب له كل ماسمعناه.
ذات لحج ..توهجت الاغنية اللحجية، سحرا يأخذ بالألباب، ويتردد على الألسن ، وترقص على إيقاعاته الأرواح قبل ان تتحرر به الاجساد، ومايزال لها نفس المذاق.. ذات الوهج، وسيظل لها في المستقبل .
نجهل حتى اليوم الأب الحقيقي لفن الغناء في لحج، ومتى انبثق على وجه التحديد، لكن نظريا نقول انه ثمرة النتاج الجماعي للناس في هذه الدلتا الذي تكون عبر التراكم والإشتغال الإبداعي والتناقل الشفاهي الذي بلغ مدى صار فيه التراث الشعبي الغنائي لسكان هذه المنطقة. ويتجلى فيه إبداعهم الذي استحق ان يسمى باسمهم ..بفن الغناء اللحجي في لحج. وبهذا المعنى فان عمره مئات السنين إن لم يكن الآلاف.
واقعيا نعرف ان الأمير احمد فضل القمندان هوالذي نهض بفن الغناء والأغنية اللحجية في العصر الحديث وبث فيهما روحا جديدة، وبنى لهما ولنفسه مجدا ومدرسة غنائية إلى درجة صارت معه الأغنية اللحجية شديدة الإرتباط بالقمندان كعلامة فارقة اثرت في جيله وكثيرين جاءوا من بعده، والممتد منذ اربعينيات القرن العشرين الماضي حتى القرن الواحد والعشرين الحالي.
لعل القمندان ظاهرة نادرة التكرار ،فهو عبقرية شعرية وتلحينية وصاحب مشروع تطويري استطاع بحساسيتة الفنية العالية وإبداعه ان يطبع بصمته على الغناء في لحج، وان ينتقل به نقلة نوعية جديدة، وفرض حضوره في كل بيت،وعرس ،ومناسبة، على السماع، والذائقة، وفي الوجدان في طول البلاد وعرضها..
وسواءا أكان دافع القمندان إلى ذلك الهيام بفن الغناء في لحج، فانحاز له وإلى ذاته المبدعة فجعله محورا لاهتمامه واشتغاله، ام كان دافعه إبراز دور السلطنة العبدلية ومحاولات سلاطينها النهوض بها، وكان اميرا من امرائها، على الاصعدة السياسية والاجتماعية والدستورية والتعليمية والادارية، وادرك كأمير مثقف ان الثقافة هي الحامل الطبيعي لإنجاز أي مشروع نهضوي كهذا . ولما كان شاعرا وفنانا مبدعا، فان هاجسه لم يكن الحكم، بل الثقافة - الادب والفن - لهذا نراه يشتغل في التأليف وفي الشعر والتلحين لبناء نهوض ثقافي للحج بموازاة مشروع دولتها على الصعيد السياسي والاجتماعي .
وفي حين عصفت التطورات الكاسحة بذلك المشروع السياسي للسلطنة العبدلية، فان مشروع القمندان الثقافي - الشعري الغنائي - كتب له النجاح والبقاء لأن جذوره تمتد في الارض بينما فروعه في السماء ...
واظن ان القمندان بحكم ثقافته ومعايشته للواقع، وقربه من المشاريع الإصلاحية النهضوية لاشقائه السلاطين العبادل - حكام لحج - المتنورين قد استنتج ان فن الغناء هو الآلية المناسبة لتحقيق مشروعه، سواءا كان مشروعه الذاتي كمبدع، او يندرج في نطاق المشروع العام. وفي كلا الحالتين فإن هيامه بالشعر والموسيقى والغناء كان اقوى من هيامه بالحكم ! ولاشك ان القدرات الكامنة في الأدب والفن وتراث الشعب كانت من السعة والكبر على الرغم من الحيز الضيق للحج، بحيث اتسعت لمشروع القمندان الثقافي، فتوهجت ذاته المبدعة على تلك الصورة التي انتجت لنا هذا الابداع الرائع من شعر وغناء في حين ان نفس الحيز الضيق عجز عن استيعاب المشروع السياسي للسلطنة على الرغم من اهدافه في الاصلاح والحريات والدستور وعن توفير اسباب النجاح له، لأنه كان أكبر من ذلك الحيز الضيق الذي لم يتسع له !
وفي حين حول القمندان بعبقريته الإبداعية، الحيز الضيق الذي انطلق منه لصالح مشروعه الثقافي - الفني واستثمر امكانياته، فانتقل بلحجه إلى فضاء اوسع وحيز اكبر عابر للتصنيفات وخارق للحدود، ولديه القدرة على الانتقال إلى الأزمنة القادمة، فان المشروع السياسي فشل في تحقيق نفس النتيجة اوحتى قريبا منها، مع الأخذ بعين الاعتبار الظروف والمعطيات التي احاطت بكلا المشروعين فوفرت النجاح لإحدهما، وتسببت في فشل الثاني .
(ولعبقرية لحج بقية)