ذات مشقاص ...ذات هبيش ! ( فصل من رواية : سيدة الضوء ...سيدة الحكاية )
ذات هبيش ، يهبط حلفون .
القمر في ربعه الأول ..حلقات الشرح معقودة . المزامير تنزف ..المشترحون والمشترحات يفجرون الليل بالهبيش .. الرصاص في الفضاء ، تردد صداه الجبال كعواء ذئاب جائعة في الليالي المقمرة .. وعشرات الخيم منصوبة في الهواء
الطلق ، اكثر من مرات المرات ومن كل الأعوام ..
الليل ، وانين الناي ، ورنين الحجول ، احزمة الفضةعلى الخصورالضامرات ..
اقدام المشترحات المعفرة بأتربة المدارات.. الرمانات المتمردة ..اثواب وصدورالنيل ، المفتوحة لهواء الليل .. الأنامل الرقيقة على الاكتوف ..العيون الوحشية ، ونيرانها التي تياراتها لاتسكن إلا بالهبيش .
- ياللرقص .. ياللشرح !
- ياللمشترحات ..
- يالإنشاد المزامير ..
عيناه المذهولتان، هناوهناك ..من مدارة إلى مدارة . من راقصة إلى راقصة .. تستقران في الأخير على واحدة بعينها ، تلك التي تشترح أجمل من البقية ..تلك التي لايفوت النظر إليها كل الرجال . هي محور الشرح ، واليها تتجه كل العيون .
- الاتتعب من الرقص ؟
من راقص إلى راقص ..من مدارة إلى اخرى ..ومن مشترح إلى مشترح .كم واحدا راقصت ؟ مع كم واحد اشترحت ؟.
لا يدري ، ولم يحص ! يتعبون ولاتتعب . كلما تعب راقص تتأبط آخر .كم عددهم ؟ عشر . عشرون . خمسون .مائة ...ومن ذا يعد ؟ لاهي ولاهو ! ولاهم ..
الهبيش اولا .. ثم يأتي بعد ذلك كل شيء .. لابد ان تشترح.. ترقص .
تحط على مدارة اخرى ..لاشعوريا يجد نفسه حيث تكون .. تشترح .. اما لهذا الشرح من آخر .. هذا الشرح البدوي ..ا الليل المشقاصي من آخر ..هذا الليل من نهاية ! اتعبتي المشترحين من بعدك ياهذه ..اتعبتي الليل ، والزماروالمزمار، والسمار !
لابد ان تشترح .. وبعد ذلك يأتي كل شيء .. في البدء كان الشرح ..
من مدارة إلى مدارة .. من حلبة إلى حلبة ..
ومن مزمار ينزف إلى ليل يأبى الرحيل ..
المقاطب المصبوغة بالنيل ، بلون السماء والبحر. وعيون الفجر ..الصدور ..الشعور الطويلة المسدلة على الأكتاف ، الاقدام الراقصة في خفة ، الاكف الضاربةبالايقاع
والاصوات الصادحة :
" الهبيش ...الهبيش ! "
حواسه كلها مشدودة ..إليها ، حركة قدميها ، ثوبها النيل.. الذيل الطويل الذي تطهر به الأرض من وجع السنين ، تحمل في حناياها الحب .. يقولوا اننا جميعا من هذا التراب قبل ان ندنسه بخطايانا ! تحاول ان تظهر طهارتها كما كانت اول مرة . قبل ان تلوثه غرائز الرجال . هذه المشقاصية ، ليست مجردمشترحة ..
ترقص بثقة ، كمالوكانت تعرف وتؤدي رسالة !
على ايقاعها الراقص .رنين الخلخالين ، الخصر الناحل الموشى بالفضة.. على رقصها البديع، المنتظم ، الموقع ، يصفق الجميع توزانا ، تزامنا مع وتيرة شرحها المتناغم .. هكذا يكون الشرح والافلا .
.هكذا يكون الهبيش وإلا كيف يكون ؟
لااحد يرقص مثل المشقاصيات ، لاأحد .
لااحد ، يشترح مثل هذه المشقاصية !
حلفون .. الديس ..المشقاص كلها كانت ترقص ..تشترح علىإيقاعها ..العرق يتصبب على جسمها ، قدماها الحافيتان تضربان الأرض الترابية .. تثيران الغبار والعيون . كانت هي الشرح ..الهبيش ، الطاقة التي تشعل الليل وفضاء المشقاص الشاسع ، والروح المتقدة التي لاتعرف السكون ، تحلق ، تتماهى . وترحل إلى اللامكان، لايحاصرها الحيز المكاني ، الضيق ..حيث الجسد من لحم ودم واعصاب وعظام لكن الروح لايحدها حدود ..
في فضاء الروح ..الهبيش ..يهيم ليله بين المدارات ..المزامير ، الشرح ، الرقص والاجساد الصاخبة ، ونزيفها الملحي ، وعيون مشقاصية لايفك شفرتها سوى ضوء الهبيش ....
بعد النزف ، والليل المشتعل بالهبيش ، وعلى دفء النار ، ورائحة الشواء يسألها عن المشقاصيات ..تحكي له ماحكته جدتها عن امها .
( 2 )
ذات هبيش ..ولم يكن في الأرض سوى آلات النفخ، صدحت المزامير ، هبط المشقاصيات من السماء ..لما راءهم الناس وهن يهبطن ، قالوا في اول الامر : هؤلاء شياطين الإنس غضب الرب عليهن فطردهم من مملكته ، ونفاهم إلى ارض البشرعقابا لهن ..لم يحددوا طبيعة المعصية التي ارتكبنها واستحقن من اجلها لعنة الرب ..لكنهم حددوا نوع العقاب الإلهي ..الترحال الأبدي وعدم الاستقرار ..
في البدء نظروا إليهن في ريبة .. رفضواقبولهن ..نبذوهن ، وقالوا : ساحرات المشقاص !
ذات هبيش ، عندما رأوهم يصرخن بنداءات الروح والجسد ..لم يروا في الدنيا اجمل من رقصهن .. منذ ذلك الحين ، نمت صلة غامضة بينهم وبين الناس ..وجعلت منهم مواسم زيارات اولياء الله ، الأعياد ، والافراح مشهورين .
احبوهن ..منحوهن اجمل ارض ..قالوا لهن :
- هذه الأرض على وسعها ..بكل نخيلها ، جداولها ، وحيواناتها ، كلها لكن ..اسكنوها لكن لاترحلوا ...
رفضن :
الارض كلها لنا ..منحها الله لنا ..ننتقل فيها حيث نشاء ، ومتى نريد ، فماحاجتنا إلى ارض البشر هذه ؟!
استعطفهن شيخ القبيلة ..ترجاهن ، قال لهن : لكن مثل الذي لنا .كان قد احب رقصهن ، قلن له :
- لا !
ورحلن .
منذ الاف السنين وهم يرتحلون ، يسعون وراء الحرية والجمال والموسيقاوالرقص
..يرقصون الهبيش في ارض الله الواسعة حيت يوجد نحيب مزمار ، يأتي الراقصون والراقصات ..ينتظمون في حلبات الشرح ويذوبون .يحتفون بالجسد على الأنات الصادحة !
وهذه الراقصة ..تبهره . تفجر في دواخله رغبات جامحة ، إشارات خفية . لايستطيع ان يقاوم انين المزامير .رقص المشترحات
ولارقصها ..
يرجف .. يحس به يخرق صدره في هذه اللحظة، وبقدميه تطيران بدونه، وسط المدارة وسط دهشةالجميع :
- " الهبيش ..الهبيش .."
دخوله المفاجيء يربكها ..لكن رقصه لايربكها ..يده في يدها . يحلق بها ، اوهي التي تحلق به. يسلم نفسه لها . لخطواتها المنتظمة ..حينا تسرع ، وحينا تبطىء .
يداهما متشابكتان ..يشترحان في رشاقة ويسترعيان انظار المتفرجين :
- " الهبيش ..الهبيش .."
بخطى وئيدة.. يقودخطواتها .. تتبعه. يطلق يدها ..فتطلق طاقتها ، كأنها فرس عصي على الترويض ..لرنين الخلخالين في قدميها صهيل الأحصنة ..
- الهبيش ..والهبيش..الهبيش والهبيش .
مزمار ينزف ..يعدو فتعدو ..يستدير
تستدير ..اسنة غبار وعاصفة تصفيق .
- مااروع هذين المشترحين ؟
- مارأينا احدا يشترح بهذه الروعة ..
- اليست هذه سهيل ؟
- سهيل ماتت من سنين ..
-من تكون اذن ؟
- روحها .. هذه روح سهيل !
- والصبي ؟
- لا نعرف ..
- نراه لأول مرة !
- قد يكون هو الاخر روحا مثلها جلبته معها ..
- اي يكن فهو مشترح جيد .
الهبيش ...الهبيش يضيء المدارة . يلف جسديهما بوشاح شفيف . والأكف تشتعل والأصوات : الهبيش ..والهبيش ..تمتد خطوط ، وتتقاطع دوائر ..تضيق وتتسع ..
ذات هبيش ..وليل المشقاص لاينتهي الافجرا ، حين يبزغ الضوء ،يخفت صوت المزامير مع اخر مشترحين ..
(3)
البعض يقول انها مجرد طيف ، لايراها احد الإ في موسم زيارة حلفون ثم تختفي. ..وفي بقية المواسم زهرة برية ، اوغيمة مطر ..
لكن سهيل لم تكن روحا هائمة فقط في مدارات الهبيش ..كانت شرارة من لحم ودم ..مامن مدارة شرح تعقد في المشقاص إلا وتكون من يشعلها .لايمكن ان تغيب او يفوتها شرح ..والرجال كانوا مشدودين إلى ذلك الجزء الإنساني منها ..
من بين كل المشترحين ، والمتفرجين لاتتجه إلا إليها . هذه الليلة كانت هي التي كانت مشدودة :
- من وين انت ؟
- من الديس ..من وادي عمر..
- يعني مشقاصي ..
- ووين تعلمت الهبيش ؟
- منش !
لم تحظ بمثل هذا الإطراء من قبل . لاتصدق ..يؤكد لها ان رقصه الليلة معها ، اول مرة يرقص فيها الهبيش ..وثاني مرة يرى فيها الشرح . المرة الأولى كانت عندما انتزعه ابوه من بين اجفان النوم إلى زيارة حلفون ، وطاف به من مدارة شرح إلى حلبة هبيش ، وقال له : هؤلاء هن المشقاصيات ..لايوجد في الدنيا من يرقص افضل منهن !
يصف رقصها بالسحر ..وهي بالساحرة.
لكثر ماسحرته وجد روحه وسط المدارة دون شعور ، وحتى دون ان يعرف كيف يكون الهبيش ..لطالما اراد ان يشترح ..
يرقص الهبيش ..وعندماالقت به الريح في المدارة تلبسته روح غريبة ووجد نفسه يرقص بدون تفسير .! .
تعلو وجهه سحابة من خجل وحياء بأثر متأخر ..يعتذر على تطفله :
- لاادري كيف تجرأت ..واتتني الشجاعة لإفعل مافعلت.. ؟
تضحك ..تقول له :
-اشترحت واجد زين !
لايمكن ان تكون هذه أول مرة يرقص فيها ..مستحيل ..يحلف لها انها المرة الأولى ..
تعلق :
- اكيد شيطان الشرح يسكنك ..!
يضحك ..الشياطين لاتقدر على فعل هذه الأشياء الجميلة ..
- واين يكون شيطاني من شيطانك ؟
تضحك ..