سرقوا جبل ربي ...!
الاسمنت .. لاشيء سوى الاسمنت ، والتحديق الجنوني للخرسانة الحديد . لايصدق ماتراه عيناه . يطلق آهة طويلة من صدره ، آهة عميقة مليئة بالحسرة : " حتى جبل ربي ! حتى جبل ربي ! "
تكاد رقبته تنقصف ، والكتل البلهاء تحدق فيه . لايكف عن الاندهاش وعيناه . يردد الجملة بذهول مدة طويلة . لم يعد الجبل هو الجبل ..ولاالاخضرار الدائم ، ولا الاشجار التي كانت تكسوه هي الاشجار . انكمشت ، زحف عليها الاسمنت . حيثما يصعد بنظره الى اعلى ، القمة الاسمنتية ، تتقافزعليه السنة حديدية طويلة . يداهمه إحساس بالضيق ، والاستفزاز . كان ثمة اشجار كثيفة في كل مكان في هذا الجبل ، والجبال المحيطة . الأشجار التي كانت هنا قبل سنة ، لم يعد لها وجود . كانت تمتد بلانهاية ، تحدث ثقبا ناعما في السماء ! فينزل المطر ،ويجري الماء حرا فوق الصخور والعشب الاخضر، ويتوغل في العمق ويكسو الجبل بكل ذلك الإخضرار . يحن اليها الآن ، تحفز فيه ذكريات من ماض غير بعيد ، سياج اشجار ، ظلال خضراء ، وسماء تبدو خضراء ، يجلس هناك معها ، وجهها في مقابل وجهه . عيناه في مدى عينيها ، خضراوان بلون الأشجار . شعرها يتغذى من ماء المطر ، لاتزال رائحته في تلافيف روحه . ضحكتها بهجة خالصة ، نضارتها همس في اذنيه . تتلامس اصابعهما ، تتشابكان ، وتسري فيهما حرارة . تريح راسها على صدره ، ويحلمان . كانا يعتقدان انهما يمسكان بالزمان . كانت اميرته ، حلم حياته ، حلم معها بالزواج ، وببيت سعيد ، حتى الأولاد اختارا اسماءهم . كبروا ، دخلوا المدارس ، تخرجوا في الجامعات ، وتلقفهم سوق العمل الذي لايشبع ! كل ماحلما به ذهب ادراج الريح ! لم يكونا وحدهما . جبل ربي مليء بالفتيان ، والفتيات الذين يهمسون بالحب ويسرفون في الاحلام . امر سهل قول الكلام ، إطلاق الوعود ، البعض بر ، تزوج ، وانجب الأولاد . يشحذون في الشوارع ، يمسحون زجاج السيارات امام إشارات المرور ، اويمضغون القات ، او يتعاطون " الخشخاش " او صاروا وقودا للحروب التي لاتتوقف قبل ان يبلغوا الحلم ! والمستقبل ؟ من قال شيئا عن المستقبل ؟!
آهة اخرى . اعمق هذه المرة . يمعن في الجبل طويلا . يزحف عليه الاسمنت ، ووهج ظهيرة ثقيلة .لايجد معنى لإنقضاضهم القبيح على الأشجار ، زراعة الاعمدة الخرسانية . متى صاروا بهذه القسوة ..متى ؟ ولماذا ؟!
( 2 )
- اين نلتقي ؟
- في جبل ربي يابنية .
وكان العشاق يصعدونه ! إثنين إثنين ، وكثافة الأشجار تخفيهم عن العيون ، والستار ! فجأة اضاعوا سترهم : حتى انت ياجبل ربي ! حتى انت ! لماذا فعلوا هذا براسك ؟ الأخضر ! الجنة ، الظلال الخضراء ، الغابات البكر ، المتسامقة مع السحب الخفيضة والمطر الإلهي . لم يعد من وجود لكل ذلك ، الهوى الاسمنتي وحده الحاكم ، الحديد ، وحافرات الأرض .
- جبل ربي .. اين جبل ربي ؟
كان بهجة الروح ، رئة المدينة ، متنفس الحب ، وارواح العشاق الشفيفة .
اسمنت ..اسمنت لاشيء غير الاسمنت ، الكتل الصماء وبلاهة الحجارة . اين طبيعتك الساحرة ، كحل الأهداب ، الشهقات الصغيرة من النشوة ، ونساء الجبل الساحرات ؟!
- سبع نساء ولاامراة من إب !
- قالوا وماستطاعوا فك طلاسمها .
- وانت كيف تراها ؟
- ارض طيبة ، إنتعاش حب ، نواياها شفافة ، تتسلق الجبل باقصى ماتستطيع من خفة وسرعة ، وتنزل ببطء منهكة ، رحم خالق ، وبطن ولادة ! لكنها برغم تضحيتها لم تنل التقدير ، قوية وصعبة .
- سبع نساء ولا إمرأة من .....!
قالوا ..وقالوا وحين عجزوا عن فك طلاسمها ، حلقوا شعرها الاخضر ، وتوجوه بتاج من اسمنت وحديد ، يحرسه حديد !
(3)
- وجبل ربي ! اين جبل ربي ؟
- اي جبل ؟
يشير إليه بكل جوارحه ، لم يكن سوى الاسمنت والجدران البلهاء تحدق إليه .
- كان هناك ... جبل ربي . قمته خضراء ، عوده اخضر ، والسماء تأخذ لونه الاخضر .
- لم نسمع بجبل كهذا ...
يغمغم ، كأنه لم يسمع شيئا ، وكأنه يخاطب نفسه :
كنا نمتطي احلامنا ، ونصعد جبل ربي ، صبيانا وبنات ، اثنين إثنين ، ونهبط منه آخر المساء ، وقد صار لنا اولاد ، مثل ورد الربيع ..اخضر !
يشير الرجل الى الاسوار والقصور والابواب الحديدية الذي صاره :
- هذه املاك خاصة !
يصعد الغضب إلى وجهه ، يصرخ فيه :
- هذا جبل ربي ياحيوان !
- لكنه لم يعد كذلك .. اشتروه.
- هذا جبل ربي يا.....
ينطلق صوت الرجل ساخرا :
- كان ...واصبح املاكا خاصة .
يستثار إلى حد عاصف :
- ربي لم يبع جبله لأحد ..انا متأكد من ذلك .
ينطلق صائحا في كل شوارع وطرقات المدينة :
- سرقوا جبل ربي ! سرقوه .. الله لم يبع جبله لهم ..سرقوه ..سرقوا جبل ربي !
ينحدر إلى الطرقات الضيقة، حين يمنع من الصعود ، ناشرا كلمته ، التي لم يحاول تغييرها ، يصرخ بها غير مبال ، يغنيها ، وكان صوته جميلا : ياريح ياللي تدخلين البيوت .....وكانت الريح تحمل صوته الى البيوت ، وتردد صداها الجبال : سرقوا جبل ربي !
الله لم يبع جبله لهم ..
واخر مارددته :
س
ي
ت
ص
د
ع
و
ن .