اشياء لاتنسى ... إني اتذكر (21) " لا احد يستطيع التنبؤ بما سيحدث ، لكن شيئا ما ...."
لم تكن هناك خطوط حمراء مكتوبة حتى لانتجاوزها ، ولااحد قال لنا من رؤساء التحرير والمسؤولين ، ماهو المسموح والممنوع ؟ماذا نكتب وماذا لانكتب ..مايصلح للنشرومالايصلح ؟!
ادركنا ذلك من ذات انفسنا.. من خلال الكتابةوالممارسةالعمليةاليومية ،كوًِنا مايمكن ان نسميه الرقابةالذاتية للكاتب على نفسه فيما يكتب..وتلك لعمري أقسى انواع الكتابة ،واقسى انواع الرقابة !
كنادائما نجد ثقبا ننفذ منه لتجاوز أية خطوط حمراء حتى لو لم تكن مكتوبة . ولم يكن هناك ماهو أنسب لإحداث مثل ذلك الإختراق غير الثقافة . عندها نلجأ للشعر والقصة لإنقاذنا ، ولنقد الوضع في زاوية ما .
في الأساس ، لم يكن من بين الصحفيين من هومعاد للثورة وتوجهات الحكومة السياسية والاقتصادية والاجتماعية .كنا تقريبا ننتمي من حيث العمر إلى جيل الشباب الذين كبروا مع الثورة وبالثورة .. ومن حيث الأفكار إلىالقيم والمباديءعن العدالة الاجتماعية والتقدم الاجتماعي وتحقيق التطور والرفاهية للمواطن ومنع إضطهاد الانسان لأخيه الانسان ..وتلك كانت افكار العصر ..قيم مثالية لايمكن لأي كان إلاَ ان يكون معها .. واكثرنا لم نكن حزبيين ..اما كيف يمكن تحقيقها ،ومتى ؟ وهل فعلا تحققت على ارض الواقع ؟ فتلك مسألة اخرى ومحل نظر ..
(2)
استقطبت الصحيفة كتابا من خارج كادرهاالصحفي ، وتركت المجال مفتوحا لصراع الأفكار بين القديم والجديد في الثقافةوالادب ،الشعر تحديدا وكان قطبا ذلك الجدل الشاعر الكبير محمد سعيد جرادة والكاتب والشاعر فريد بركات . وشارك فيه الشاعر الكبير عبد الرحمن فخري وآخرون.
ودخل عمر الجاوي ود محمد علي الشهاري من ناحية أخرى في جدال طويل حول 26 سبتمبر 1962 هل هي ثورة ام انقلاب فبينما كان الجاوي يصر بانها ثورة فان الشهاري كان يراها مجرد إنقلاب .
وتزينت الصحيفة بقصائد شعراء كبار امثال : لطفي جعفر امان ، ومحمد عبده غانم ، وعبدالرحمن فخري، ومسرور مبروك ، والقرشي عبدالرحيم ، وعبدالله سلام ناجي ، والجرادة ، وعبد الله فاضل فارع ، ومحمد بن محمد الزبيري .كما كنا ننشر قصائد للشعراءالكبار :عبد الله البردوني ، وعبد العزيز المقالح ، ومحمد الشرفي ، ويوسف الشحاري ، وسلطان الصريمي . ومحمد بن محمد الزبيري وغيرهم .
(3)
كان لطفي امان يرسل قصائده إلى الجريدة بسبب مرضه بالقلب خلال السنوات الأخيرة .. المرة الوحيدة التي رأيته يلقي شعره امام جمهور كبير بالقائه الفخم كان عندما مات الزعيم العربي جمال عبد الناصر في سبتمبر 1970، وكان صوته العميق مفعما بالحزن والتعب ومنكسرا وهو يرثيه في قصيدته : ( مات جمال ) لكن الذي كسرقلبه الرقيق كان اشياء كثيرة ، منها هزيمة العرب في حزيران 67 ، وسجنه في زنجبار بعد الاستقلال لشاعر غنى للحرية والاستقلال اكثر ممافعل سجانه الغبي . ماكان لقلب برقة واحساس شاعر مثل لطفي امان ان يتحمل ارزاء مثلها .
كنت اهاتفه بين وقت وآخر خاصة كل رأس سنة لتهنئته بالعيد ولأرجوه أن يقول كلمة بالمناسبة لقراء الصحيفة ، وكان يعاتبني بلطف قبل ان يملي علي تهنئيتة الرقيقة لقرائه ..لم يكن لطفي امان شاعرا وحسب ، كان ملحنا ، ورساما، وناقدا ، وتربويا . وقبل هذا وذاك إنسانا بكل مافي الإنسان من معنى وسمو ورقي . وماكان لشاعر مثل لطفي بكل هذه المشاعر الرقيقة والاحاسيس المرهفة إلا ان ينتمي لتيار الرومانسية .
وعندما خذله قلبه مشيت خلف جنازته المهيبة من بيته إلى مقبرة العيدروس بعد ان مات في مستشفى القوات المسلحة في القاهرة .
اما الشاعران الجرادة وغانم فكانا يأتيان شخصيا إلى مقر الصحيفة لتسليم قصائدهما ، وكان في ذلك تواضع العظماء..وفي شعرهما الأبيض شموخ الشعر ..
وبكل ارتبطت بصداقة وعلاقة ، هي علاقة التلميذ بالأستاذ . وقبل ذلك علاقة المعجب بشاعرين كبيرين . حينها لم اكن سوى صبي .. ومصدر إعجابي بهما كان عبر الاغاني التي كان يغنيه من اشعارهما المطربون في عدن : خليل محمد خليل وسالم بامدهف ومحمد مرشد ناجي واحمد قاسم وسواهم .
كان رؤية هؤلاء الكبار وجها لوجه والذين كنت اقرا لهم واحفظ بعض قصائدهم خاصة تلك المغناة شعور عميق في النفس ، كانا من البساطة والتواضع إلى درجة تشعرك بانك تعرفهم منذ زمن بعيد . اما ادباء وكتاب اليمن الكبار شمالا وجنوبا فقد رأيتهم جميعا في مؤتمرهم التوحيدي الذي عقد في المسرح الوطني في التواهي وكنت احضره الآن بصفتي واحدامنهم ،
كاتبا للقصةالقصيرومن اصغرهم اناوزميلي الشاعر محمود الحاج .
وكان من بين الذين يترددون على الجريدة ايضاالشعراء مسرور مبروك وحمود نعمان وعلي مهدي الشنواح وشاعر الفلاحين كور سعيد ، حاملين الجديد من اشعارهم لنشرها في الجريدة .
( 4)
كانت أكتوبر البوابة التي ولج منها جيل جديد من شعراء الحداثة الذي ظهر في سنوات السبعينيات ، وتعرف عليهم القراء لأول مرة امثال : الاخوين زكي وفريد بركات ، شوقي شفيق ، ومحمد حسين هيثم ، وجنيد محمد الجنيد، ومحمد ناصر شراء ، ومحمد حسين الجحوشي ، وعبد الرحمن إبراهيم ، وعبد الرحمن السقاف ، ونجيب مقبل ، وسعيد البطاطي، وعمر محمد عمر ،وعوض الشقاع ، ومختار علي بن علي وهما شاعرا عمود مجيدان ، وآخرين .
كان الزمن الشعري يسير لصالح الشعر الحر ، بعد ان استنفذ الشعر التقليدي الصارم المقيد بالوزن والقافية اغراضه وعجز عن حمل مضامين العصر الجديدة. لكن كانت توجد إستثناءت ايضا كقصائد الشاعر الكبيرعبد الله البردوني الرائعة
..ولكل قاعدة يوجد إستثناء ..
سيبرزجيل جديد من كتاب القصة القصيرة إلى جانب جيل الرواد محمدعلي لقمان ومحمد سعيد مسواط ، و القاص الكبير احمد محفوظ عمر ، وكمال حيدر وعلي باذيب. وسعيدباوزير ، وصالح الدحان ومحمد عبدالولي ..سيتعرف القراء على كتاب قصة جدد امثال اديب قاسم و ميفع عبد الرحمن وسعيد عولقي وحسين السيد ، وكمال الدين محمد واحمد سعيد بلعيد ومحمد صالح حيدرة ومحمد عمر بحاح وشفيقة زوقري وعادل ناصرحسن واخرين سيثرون بقصصهم المشهد الثقافي .. كما سيظهر نقاد من امثال فيصل الصوفي ووجدي الشينة وهشام علي بن علي ، والغلسطيني علي حسين خلف ، وسالم الفراص .
كانت هذه البدايات الجنوبية لإزدهار الثقافة وبؤس السياسة ..إزدهار الشعر والقصة والمسرح والغناء الجماعي والرقص الشعبي ، واضمحلال السياسة عبر صراع السياسيين على السلطة وخلافهم علىالتوجهات بين يمين ويسار ورجعي وتقدمي .
لم يبق لايمين ولايسار ولارجعي ولاتقدمي..
انقضت الحدأة وخطفت الخصار !!
وكان هذا يثبت عجزهم عن إقامة الجنة التي وعدوا بها الفقراء ..
لقد حطموا الحلم الجميل ببساطة ..ولم ينجو سالم باجميل فدفع خمس سنوات من عمره في معتقل الفتح مع علي صالح عباد وعبد الله البار وسالم الحاج وسالم عمر حسين واحمدالكازمي، وحسن باعوم لكنهم نجوا من الاعدام الذي كان مصير الرئيس سالمين ورفيقيه جاعم صالح وعلي سالم لعور ! ومئات العسكريين .
وكاد يكون مصيري غير مختلف عنهم لولاعناية الله واجلي الذي لم يحن بعد !
(5)
في يوم حزيراني يقترب من نهايته ، صعد رجال مسلحون إلى شقتي في الدور الرابع في احدى عمارات الشارع الرئيس. بالمعلا وطرقوا الباب ..وعندما فتحت امي لهم ورأت الأسلحة الرشاشة في ايديهم اصابها الهلع وظنت انهم جاءوا لاعتقالي ، وكانت تسمع اصوات قصف الطيران منذ البارحة على الرئاسة بالتواهي ، لكن المسلحين الذين كانوا والحق يقال لطفاء سألوا :
- اين المصاب .. علوي؟
شعرت امي بالأطمنئنان ، لكن احست بالخوف على علوي ..كان علوي الشاطري عضوا في الفرقة الموسيقية التابعة للحرس الجمهوري و يسكن في منطقة الرئاسة بالفتح ، وخلال القصف المتبادل اصيب بشظاياطاثشة في فخذه لكن اصابته لم تكن خطيرة ، فسارع إلى النجاة بحياته مع زوجته واولاده ..ولما كنت اعرفه من ايام كنا نسكن معا في معسكر عبد القوي وتعرف زوجته امي فقد كنا اول من فكر ولجأ إليهم ..
اما كيف عرفوا بوجودعلوي الشاطري في شقتي وانه مصاب ..فقد اتصلت من مكتبي في الجريدة بالهاتف إلى شقتي ، وكان ان ردت على المكالمة ابنة عمي نجاة التي كانت في زيارتنا ، واخبرتني بان علوي جاء من التواهي وانه مصاب
..ولم تكن تعرف ان التلفونات مراقبة خاصة في ذلك الوضع المتفجر .
لهذا جاءوا لاعتقال علوي الذي أراهم مكان الإصابة وطبيعة عمله كعازف في الفرقة الموسيقية للحرس الجمهوري ، ومع ذلك اخذوه معهم ،لكنهم افرجوا عنه بعد ان تأكدوا ان لاعلاقة له بالأحداث ، ولم يشارك في القتال .