اشياء لاتنسى ... إني اتذكر ( 17 ) لا احد يستطيع التنبؤ بما سيحدث لكن شيئا ما ...
اول رحلة صحفية لي إلى الخارج كانت إلى بيونج يانج ،عاصمةكورياالديمقراطية. وكنت حينها سكرتير تحرير صحيفة ( الشرارة) المسائية التي يرأس تحريرها الاستاذ صالح الدحان . ترأس وفدنا الدكتور. د . عبد الرحمن عبد الله إبراهيم وكيل وزارة الإعلام ، وضم يونس صقران من قسم الاخبار بإذاعة عدن ، ومحمد حسن ثابت من وزارة الخارجية ، وزميلي الصحافي والشاعر محمود علي الحاج ، سكرتير صحيفة 14 اكتوبر .
ان تسافر إلى بلد لاتعرفه ، يعني التعرف إلى ثقافة شعب وحضارة امة .
قبل هذه الرحلة الأولى والأخيرة إلى كوريا ، لم اكن اعرف عنها إلاالقليل .. الجرارات الزراعية والدقيق الابيض المهدى منها إلى اليمن الجنوبية بعد الاستقلال ، الزيارة التي قام بها الرئيس قحطان الشعبي إلى بيونج يانج ومباحثاته مع الزعيم الكوري كيم ايل سونغ ، الإستقبال الحافل الذي استقبل به الكوريون أول زعيم عربي يزور بلادهم ، وقد غنى له الاطفال الكوريون " بالأحضان ياقحطان " ذلك النشيد الذي لحنه موسيقارنا احمد قاسم .. وقرأت سلسلة المقالات التي كتبها الصحافي محمد البيحي عن زيارته لكوريا الشمالية في صحيفة 14 اكتوبر ، كما قرأت بعض كتيبات زعيمهم التي كان يهديها لنا الشاب الوسيم ليم مدير المركز الثقافي الكوري في عدن ، الذي يتكلم العربية الفصحى بطلاقة،بطبعات انيقة غلافها اخضر ، وعناوين بماء الذهب ، تتصدرها صورة زعيم الأربعين مليون كوري !.
كل هذا لايغني عن زيارة البلد ،فمن رأى ليس كمن سمع كما يقول المثل ! او كمن قرأ ..
ومما قرأته ،ان بيونج يانج نهضت من الرماد ، القى عليها الاميركيون 428000 قنبلة خلال الحرب الكورية 1950/ 1953م أي مايفوق عدد سكان المدينة حينها ..وكانوا رحيمين بها إذ لم يقصفوها بالقنابل الذرية كما فعلوا بنازازاكي وهيروشيما اليابانيتين خلال الحرب العالمية الثانية .
الحرب الكورية ادت إلى تقسيم كوريا لدولتين شمالية ( شيوعية ) عاصمتها بيونغ يانغ ، وجنوبية ( راسمالية) عاصمتها سيؤول ، وخلفت ضحايا يقدرون باكثر من ثلاثة ملايين إنسان .
حرص مضيفونا الكوريون ان يرونا خط العرض 38 الفاصل بين الكوريتين ، ورأينا بالعين المجردة الجنود الامريكيين ( اليانكي ) تماما كما وصفهم محمد البيحي في كتاباته بعد زيارة بيونغ يانغ وخط الهدنة بين الكوريتين .
ماذا يفعل اليانكي هنا ..في شبه الجزيرة الكورية ؟
يعود تاريخ المدينة ، إلى عام 2333 ق.م حين اتخذتهاإحدى الأسر القديمة التي حكمت كورية عاصمة لها ، وأعاد تأسيسها الزعيم الكوري كيم ايل سونغ عام 1945م بعد خروج اليابانيين النهائي . وتعتبر اقدم مدينة في تاريخ شبه الجزيرة الكورية . وترتفع المدينة 83 مترا عن سطح البحر ، وتقع شمال غرب البلاد . وهذا ايضا مما قراته ...
(2)
مايلفت النظر ، اول ماتطأ اقدامك المدينة شوارعها العريضة ،ابنيتها الضخمة المتجانسة ، النصب التذكارية الضخمة ، النصب التذكاري الضخم الذي يرمز الى فكرة "زوتشيه " على هيئة حصان مجنح
..والأنصاب التذكارية لزعيمهم كيم ايل سونغ .. يصر الكوريون الشماليون على بناء كل شيء حتى يبدو بشكل ضخم ، ربما لتأكيد قدرتهم على الإعتماد على الذات ، وهي الفكرة التي تتمحور حولها نظرية" زوتشيه " .
كما يحرصون على إظهار عاصمتهم بصورة شابة عصرية ، تتمحور حول ساحة كيم ايل سونج ، حيث بنيت اجزاء قلب المدينة ، وتطل عليها دار الدراسة الشعبية الكبرى التي تنهض بمهابة فوق ربوة نامسان ، لتشكل محورا للمباني الموزعة في العاصمة والشوارع المتشكلة من قلب العاصمة إلى اطرافها ..ولاشك ان ملامح المدينة قد تغيرت وتجددت بصورة عامة عما كانت عليه عندما زرناها في بداية سبعينيات القرن العشرين الماضي ..
( 3)
يقدس الكوريون ، زعيمهم كيم ايل سونغ ، بما يمكن وصفه بأنه نوع من انواع عبادة الفرد الذي يعتبر ثقافة شرقية ، لكن الحقيقة ان هذا امر يعود إلى البوذية بالرغم من ان عقيدة الدولة الرسمية هي الإلحاد !
تقول السيرةالرسمية لكيم ايل سونغ انه ولد على بركان يعلوه قوس قزح مزدوج ، وفي لحظة ولادته ومض في السماء نجم جديد . ويعتقدون ان مؤسس دولتهم هو نعمة إلهية من السماوات ، وتعلم المشي في الأسبوع الثالث من عمره ..!!
وهم يؤمنون بهذا ، إلى درجة ان التقويم الزمني يبدأ من ولادته ، وليس من ولادة يسوع المسيح .. وهذه ليست حالةكورية، بل تشترك معهم شعوب اخرى وإن بدرجات متفاوتة ..
نجد مثيلا له في ماوتسي تونغ في الصين ، وستالين في روسيا ، لكنه ليس مختصرا على الشعوب الشرقية ، لأن الغرب ايضا عرف انواعا من عبادة الفرد والدكتاتوريات العسكرية ..هتلر في المانيا ، موسوليني في ايطاليا ، فرانكو في اسبانيا ..ولربما ان الديكتاتوريات الغربية اسوأ بما لايقاس لانها تسببت باشعال حروب عالمية ، إضافة إلى اضطهاد شعوبها وإشعال حروب راح ضحيتها عشرات الملايين !
مامن مكان زرناه ،اومسرحية شاهدناها ، اومزرعة ، مصنع ، الا ويعزى الفضل إلى الزعيم وحده دون احد سواه . لاحديث عن المهندسين ، الكتاب ، الفنانين ، العقول الكورية التي ابدعت ، خططت ، بنت ، انتجت كل هذا الانجاز ..فهذه المسرحية التي شاهدناها والتي تشمل الرقص والغناء الكوريين التي طبعا لم نفهم منها شيئا، قيل لنا انها من تأليف الزعيم كيم ايل سونغ ، ومزرعة الدواجن التي حرصوا ان نزورها ، قالوا لنا ان الدجاج صارت تبيض بيضا حجمه اكبر( ارونا إياه)، بعد ان زارها الزعيم ! والكرسي الذي جلس عليه ، وفي اماكن اخرى زارها، يغلف بالنايلون ويختم بالشمع الأحمر ولااحد يجلس عليه ، ويصبح ضمن معروضات الزوار !
ليس هذا فحسب ، فهناك مكان ولادة الزعيم كيم ..ويقع على ربوة عالية وهو من اماكن الزيارة التي يحرص الكوريون ان يروها لزوارهم ..وهذا مافعلوه معنا . ويزوره الكوريون كمزار مقدس كمانزور نحن اضرحة الأولياء إن لم يكن اكثر ...
وحتى بعد ان مات في 1994 فقد حنطوا جثمانه وجعلوه مزارا للشعب في قصر سومسان اوقصر الشمس !
( 4.)
لايمكنك ان تغادر الفندق . على غير عادة الضيوف فقد هربنا من الرقابة ونزلنا الشارع ، اردنا ان نرى الناس والبلد على الطبيعة ..
خلال الوقت القصير قبل ان يكتشفوا غيابنا ، رأينا نهر دايدونغ الذي يشق العاصمة .كان النهر هناك ينفتح و يتدفق بعنفوان تحف به اشجار الصفصاف العملاقة، شاسعا كالبحر، لا جامدا كمايبدو في اللوحات التي اهدوها لنا ...
وشاهدنا نهرا اخر يتفتح من الفتيات الكوريات يلعبن كرة السلة في ملعب صغير ، يتدفقن جمالا وحيوية لاكما يبدون مثل الدمى المحنطة في الفندق الذي ننزل فيه ، يتحاشين الحديث معنا بابتساماتهن المهذبة !
وعلى العموم ، لم تطل متعتنا في الهروب ، فقد ضبطنا مضيفونا الكوريون متلبسين ونحن نستمتع بالنظر الى فتياتهم خلسة ! دون ان نعلم اننا ارتكبنا جرما ، فالنساء الكوريات لايسمح لهن باظهار الركبتين ، التي يجب ان تغطيها التنورة ، ولايسمح لهن بارتداء البنطلون ! وزعيمهم الجديد ، حفيد الجد منعهن من ركوب الدراجات !! ولولا اننا كنا ضيوفا رسميين من بلد صديق لربما اعدمونا رميا بالرصاص !!
ماعدا ذلك ، خضعنا لبرنامج الزيارة الصارم ، والاستماع الممل إلى إنجازات شمس الأرض كيم ايل سونج في كل مكان زورونا إياه من لحظة ميلاده ، إلى نضاله ضد الاستعمار الياباني لبلاده ، إلى فراره إلى منشوريا ، إلى انضمامه الى الحزب الشيوعي الصيني ، وإلى حزب العمال الكوري ، و تأسيسه لجمهورية كوريا الديمقراطية ، ونظريته في الإعتماد على الذات زوتشيه ...... قصة كفاح جديرة بأن تحكى ويكتب عنها لكن ليس بكل تلك القداسة التي تظهره كإله لايخطيء ...
(5 )
المدينة ليست الأحجار ، ولا المباني الضخمة ، والنصب التذكارية على تلة مانسو، ولامعبد الشمس ، ولاالأبراج التذكارية ..المدينة هي الناس .. من كنا نريد رؤيتهم ، الحوار معهم ، وكيف يعيشون ؟ لا ان نرى تماثيلا لاتنطق ..كنا نريد ان نرى المقاهي ، المطاعم ، البيوت ، الأسواق ، حياة الإنسان الكوري لا ماارادوا ان يروناإياه .. وحتما ليست بيونغ يانغ مارأيناه ، بل مالم نره .. كنانحس ان هناك حياة اخرى .. كوريون آخرون غير الذين رأيناهم اوارونا إياهم ...
ينتابك احيانا شعور ان تستنطق الحجارة ، لتقول لك مالايستطيع ان ينطق به الناس الذين يلقنونهم مايريدون ان يسمعوه لضيوفهم ، بينما الحقيقة شيء آخر ..
ليس الكوريون وحدهم من يفعل ذلك ، كل الانظمة تتباهي بانها تفعل الافضل لشعبها ، ويعيش احسن مستوى معيشي ، ولايوجد من هو افضل منه ..
المكان الوحيد الذي يطلق عليه الكوريون كلمة قصر هي قصور الأطفال ، انهم يعيشون حياة الملوك كما قالوا لنا ، ويوفرون لهم كل شيء ..التعليم ، الطعام والالعاب ، والثياب ، ويعلمونهم الغناء ، العزف على الالات الموسيقية ، وقبل كل شيء يعلمونهم حب الزعيم وتمجيده ، فهو الأب او الاله المقدس !
(6)
لكن هذا الشعب عبقري ..
تشعر بذلك عندما تكتشف انهم حولوا الحجارة عبر وسائل كيماوية إلى نسيج وملابس يلبسونها ، وإلى علكة يعلكونها ، ولهم فيها مآرب أخرى كما قالوا لنا عندما زرنا مصنعا للنسيج في العاصمة ، حيث تعتبر مركزاكبيرا للنسيج والصناعات الغذائية ..
وظنك في محله ، فلولا الناس ، البشر والعقول الكورية لما استطاعوا ان يحولوا الحجارة إلى نسيج وملابس واغذية !
لولا البشر لظل الحجر حجرا ..
ولماثمود جابوا الصخر بالواد ..
ولا الفراعنة بنوا الاهرامات ..
ولاكانت ارم ذات العماد ..
ولا الصينيون بنوا سور الصين العظيم ..
ولا البابليون جعلوا من حدائقهم المعلقة عجيبة من عجائب الدنيا ..
ولا المصريون شقوا قناة السويس ...
لكنهم عباقرة من العبيد ...!
كل إنجازعظيم يعود إلى الإنسان ..
( 7)
لاتوجدفي كوريا صحافة حرة !
ولماذا نلومهم ؟
لقد استنسخنا التجربة السوفياتية ، والصينية ، والكورية ، كان عندنا عشية الاستقلال في 30 نوفمبر 67نحو 60 صحيفة ومجلة ، مابين يومية واسبوعية ونصف شهرية وشهرية ، الغيناها كلها بشخطة قلم ، او بقرار من رئيس الجمهورية ، كنت وزميلي محمود الحاج نمثل الصحيفتين الوحيدتين شبه الرسمية المملوكة للدولة ..!
كنا عندما ندير مؤشر الراديو ، في غرفة الفندق ، لا نسمع الإ إذاعة بيونج يانج ..لا أدري إذا كان هذا نظاما خاصا بالفندق ، او هو على مستوى البلاد كلها ، كنوع من الستار الحديدي الكوري المحكم !
ولم نر تلفزيونا في الفندق .. لااظن انه كان لديهم تلفزيون في ذلك الوقت ..بينما دخل البث التلفزيوني عدن سنة 1964م لكن كانت لديهم سينما ، وإن كانت مسخرة للدعاية للزعيم .. والبوليس السري يراقب المراسلات ، والاتصالات ، وفيما بعد كتب الكساندر ارتامونوف في موقع ( برافدا . رو) ان الحكومة تقوم بضبط اجهزة الراديولتقوم بتشغيل الترددات المعتمدة فقط ، ويعتبر الإستماع إلى الراديو الأجنبي ومشاهدة التلفزيون غير قانوني ، كماتقوم بالتشويش على إشارات الراديو الأجنبية،والمواطنون ملزمون وفقا ل "ارتامونوف " تسجيل اجهزة تلفزيوناتهم الخاصة لدى الجهات الأمنية ولايسمح لهم إلابثلاث قنوات فقط ، وتتحكم السلطات المحلية بضبط الترددات لمنع إغراءات القنوات الأجنبية .
.وطالما لاتوجد صحافة ، ومنافذ للقول ، فلا احد يستطيع معرفة مايجري هناك . ثمة واقع خلفي لايعرف عنه الرأي العام العالمي ..واقع مخفي اشد غرابة من القليل الذي يتسرب ، الإعدامات تتم علانية ، والأسرة تقضي العقوبة مع المحكوم عليه حتى الجيل الثالث .. لهذا يعتبرصديقي الشاعر والكاتب محمود الحاج زميل رحلتي هذه اسوأ رحلة ! اما الدكتور عبد الرحمن عبد الله رئيس وفدنا الإعلامي فقد كان يتغلب على غرائبية مانسمع ونشاهد بروح النكتة حتى لانصاب بالمقولات الكورية ، والأفكار الهابطة من السماء بأشعة شمس الشموس المحرقة !
( 8)
لم تنج عدن من لعنة كورية أصابتها ، فكل رؤسائها الذين زاروا بيونج يانج ، والتقوا بالزعيم الكوري ، لم ينج صاحبه من ان يشاهد مصيرا مأسويا ، ونهاية حكمه بدء بقحطان الشعبي ، مرورا بعبد الفتاح اسماعيل ، وانتهاء بعلي ناصر محمد ، بينما نجا الزعيم الكوري من هذه اللعنة وعاش حتى عمر ال 82 ومات في عام 1994م ...