(  لا احد يستطيع التنبؤ بما سيحدث لكن شيئا اكيدا .....)
     العودة إلى عدن عودة إلى الروح ..
  هانذا اعود إليها بعد غياب نحو سبع سنوات ..لم اعد ذلك الطفل المسحور حين جئتها اول مرة نهاية 1960..ولا المدينة هي نفسها .. 
  ان العودة الى عدن ، لاادري هل هي حنين إلى الماضي ام ابحار إلى المستقبل .. الماضي لن يعود ، والمستقبل في حكم المجهول ! واعادة الماضي إلى الحاضر محال ، على راي شاعرنا المحضار ..
   يتنوع ايقاع عدن من  بعض سنوات طفولتي فيها .. درست في كلية بلقيس ، لعبت في شوارعها ، تنزهت في بستان الكمسري وحديقة الحيوان "بستان عبد المجيد" في الشيخ عثمان وصهاريج الطويلة -كريتر .. تسكعت بين حافتي القاضي وحسين ولعبت الكرة الشراب مع عيال الحوافي ..  وارتدت دور السينما فيها ، وسبحت في شواطئهاالذهبية، وعشت بهجة الحياة في زيارات اوليائها الصالحين العيدروس وهاشم بحر والغدير . ورافقتني ذكريات كثيرة عنها لاتبارحني ولازمن عدن الجميل استعيده واستعين به كلما قست الأيام ! .

                                 (2)
  انتقلت من حضرموت إلىعدن مع والدي على ظهر سفينة خشبية من ميناء القرن  .
   يحب ابي سفرالبحر ، حتى لو كانت وسائل سفر أخرى متاحة ولم يركب في حياته طائرة رغم انها اسرع واكثر راحة وأمانا .. لااعلم إذا ماكان ابي قدعانى من فوبيا ركوب الطائرات مثلما كان عبد الوهاب والمقالح ! 
   يحب ابي السفر بين ازرقين ..البحر والسماء ، التعرف إلى اصدقاءجدد َمن عمره ..ممارسة متعته في الصيد .. مساعدة البحارة في عملهم ، وكل هذا لايوفره له السفر بالجو ..
  سكنا في معسكر عبد القوي ( الليوي ) في الشيخ عثمان .المقرالسابق لقيادة الجيش المحلي الذي انشأه الانجليز سنة 1928والتابع لسلاح الجو البريطاني  . 
   المعسكر.صار مقرا للفرقة الموسيقية  التابعة للحرس الجمهوري ، التي انتقلت عشية الإستقلال من المكلا حيث كانت الفرقة السلطانية للسلطان القعيطي وكان الفنان محمد جمعة خان قائدا لها بعد الهندي عبد اللطيف إلى ان توفي سنة 1963 والآن كان يقودها شقيقه عبد القادر الذي وضع موسيقى السلام الجمهوري لجمهورية اليمن الجنوبية الشعبية . 
     اول مرة في حياتي ادخل معسكرا للجيش ، طرقاته معبدة ، اشجار كبيرة تظلله .. ومستوى عال من النظافة .. اشعرني بالزهو وبنوع من الفرح لا اعرف مصدره .. 
  لا اعلم إذا ماحافظت معسكراتنا على نفس المستوى من النظافة والعناية بالاشجار كما ورثته من الانجليز إذ اني لم اعش في معسكر بعده ..
                             (3).

    عدت إلىعدن في العام الأول من الإستقلال ..
    العودة إلى عدن عودة إلى الروح ..
   كان لازال فيها بقية من إزدهار .. 
   بقايا شيء من كل شيء ، لكنهاحتمالم تعد كما كانت الميناء الثاني في العالم ومنطقة تجارة حرة .. 
  تراجع دورها ذاك لعدة اسباب .. إغلاق قناة السويس بعد حرب 1967م ،وجلاء القاعدة البريطانية التي كانت اكبر قاعدة للإنجليز شرقي السويس ، نشأعن رحيلهم بطالة قدرت بنحو 30 الف فقدوا وظائفهم بسبب ذلك ، وزاد من سوء الأوضاع تراجع الحكومة البريطانية عن دفع إلتزاماتها المالية لحكومة الإستقلال والمقدرة بنحو 60مليون جنيه إسترليني ، ولم تسفر عدة زيارات قام بها الرئيس قحطان الشعبي إلى عدة دول عربية واشتراكية سوى عن القليل من المساعدات التي لاتسمن ولاتغني من جوع .. وكان في كل خطاباته يدعو إلى التقشف وربط الأحزمة على البطون !     
  وزاد الطينة بلة سحب رؤوس اموال محليةواجنبية ارصدتها وتجارتها ونقلها لأسواق اخرى ، وكانت ترى امانها في الوجود الإستعماري فرحلت برحيله !  
وراس المال بطبعه جبان !  
  واسهمت بعض القرارات غير المدروسة من حكومة الإستقلال التي سلقت على عجل بإحالة عدد غير قليل من العسكريين خاصةكبار ضباط الجيش والأمن إلى المعاش المبكر ينتمون اكثرهم الى عوالف شبوة بحكم تركيبة الجيش، وتسريح مدنيين من الخدمة ، بدلا من الإستفادة من خبراتهم جلهم من ابناء عدن في تعقيد الأوضاع وحالةالناس والنظام الجديد معا .
   لكن مع ذلك كان الناس لايزالون فرحين بالإستقلال بالرغم من آثار حربين اهليتين بين الثوار الذين خاضوا حرب التحرير :  الجبهة القومية وجبهة التحرير .. آثارها ماثلة في النفوس ورصاصها في الجدران !
                            (  4)
  عدن في العام الأول من الإستقلال.. 
  بقايا من إزدهار ..
  بقايا شيء من كل شيء ..
 المدينة تعيش تحت ظلال إنقلاب 20مارس 68 واجواء وهواجس المؤتمر الرابع للجبهة القومية المنعقد في زنجبار عاصمة ابين ، الذي حدد هوية النظام اليسارية ( المتطرفة !) واستفز شرائح في المجتمع خاصة الرأسمال الوطني الناشيء والجيش ، ورفع من وتيرة المخاوف لدى الجيران وقوى محلية في الداخل وأخرى في الخارج .. تترقب نتائج الخلاف بين الجناحين المتصارعين الذي خرج إلى العلن في وقت مبكر بعدنيل الاستقلال .
وتصل اصداؤه إلى الشارع المتوجس والخارج المترقب والمتربص ..   
 
                          (  5 )  
    العودة إلى عدن عودة إلى الروح .. 
  عدن العام الأول من الإستقلال ..         بقاياشيء من كل شيء ..
بقايا من إزدهار شهدته منذ إفتتاح قناة السويس سنة1869 وإعلان عدن منطقة تجارة حرة .وازداد في عقدى الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين .. 
   كانت شوارع المدينة لاتزال نظيفة .. والكهرباء 24على 24 لاتطفيء لافي ليل ولانهار ..الناس قادرون على السهر وعلى الضحك ، يرتادون دورالسينما ، ويتابعون افلام ومسلسلات التلفزيون ..
   الأحياء لاتزال تحمل نفس الأسماء القديمة : كريتر ، المعلا ، التواهي ، هاف فون ، خورمكسر ، الشيخ عثمان ، دار سعد ، والبريقة . 
     الدكاكين ، ملأى بالبضائع من كل نوع ، والفاترينات بالصوف الانجليزي وماركات القمصان الشهيرة والصوارين الاندونسية والهنديةوالعطور الفرنسية والساعات السويسرية والأجهزة الكهربائية ..
والأسواق بالخضراوات والفواكه واللحوم والأسماك ..
   رائحة البهارات الهندية والبخور العدني واللحجي تعبق في شوارع واحياء المدينة العتيقة .. والفل والكادي والمشموم ..
   التجار لايزالون يمارسون تجارتهم في الإستيراد والتصدير وتجارة التجزئة وإن لم يكن بنفس الوتيرة ، ويسيطرون على سوق العقارات لكن حركة الإنشاء توقفت في إنتظار ماتؤل إليه الأمور ، ولايزالون المالكين للعمارات والمباني ويؤجرونها بنظام الديبازي او "حق المفتاح ! يملكون الفنادق ودور السينما وشركات التأمين والبنوك والنقل والمواصلات والطيران وخدمات الميناء والبترول ، والبعض لايزالون وكلاء تجاريين لعدد من الشركات العالمية ..السيارات والساعات والسجائر ..
  الأطباء يمارسون مهنتهم الإنسانية في المستشفيات الحكومية وفي المساء في عياداتهم الخاصة ..
في الفترة التي اتحدث عنهاكان التلاميذ  يذهبون إلى مدارسهم بالشورت الكاكي والقمصان البيضاء ،  والفتيات بالتنورات  . كان فيها بقاياجاليات اجنبية هندية وفارسية وافريقية قبل ان تصبح عدن مدينة طاردة يهاجرابناؤها إلى مدن النفط وإلى اليمن بعد ان كانت تستقطب العمالة من كل مكان . 
                         ( 6)

 كانت عدن تفقد طابعها المديني تدريجيا" بسبب زحف ملحوظ من الريف نحو المدينة باعداد كبيرة ، اكثرهم في الجيش والأمن ومن الثوار الذين حققوا الإنتصار وكانوا الان يعتبرون انفسهم الأحق بثمرات ذلك النصر ! 
   جاءوا بعاداتهم وبداوتهم ولم يتكيف اغلبهم بعد مع روح المدينة لكنهم يعلنون انهم يحبون عدن عاصمةبلادهم المستقلة  ولكن على طريقتهم الخاصة ، ومع كل صراع جديد على السلطة يستدعى المزيد من هؤلاء لحسم الصراع بالقوة .. ومن الحب ماقتل ..! 
     إذاعة عدن تذيع طوال الوقت اناشيد لحنت على عجل ترسخ في الوجدان هوية المنتصر : "كل الشعب قومية "و" اناقومي بن قومي " بدلا من " هات يدك على يدي اكن لك وتكن لي." عندما كان اخوة السلاح يتقاتلون ، دون ان يعلموا بقانون الجدل "لاالمهزوم يفنى ولاالمنتصر ضامن بقاه .." كما صاغه الحكيم عوض الحامد !
   إنه الزمن يتغير .. عنوانه الحرية والإستقلال، وباطنه يشي بالعكس . حظرت الأحزاب إلاماكانت هويتها يسارية إشتراكية . 
   واغلقت الصحف الخاصة ولم يعد في المدينة التي كانت تصدر فيها نحو ستون صحيفة ومجلة مابين يومية واسبوعية وشهرية إلاصحيفة يومية شبه رسمية واخرى للحزب الحاكم . كانت تلك اول ضربة لحرية الراي وحق المجتمع في تأسيس الأحزاب والإنضمام إليهاوإصدار الصحف .. 
  وسيؤسس هذا لنظام الحزب الواحد والراي الواحد !! وكانت بعض الأقلام المتطرفة تبث خطابا عدائيا إتجاه كبار ضباط الجيش ممن اسمتهم " شلة العقداء " وتتوعدهم بان تجعل من جماجمهم منافض للسجائر !! 
 شيء مرعب يوقف الدماء في العروق ..
 كنت ادرك بمرارة ان هذه الرغبات المجنونة المعبر عنها علنا ، ستدمر ماضي عدن الذهبي ، ولن يصنع مستقبلا يمكن التفاؤل به ..