اشياء حميمة ( 18) نجيب .... ومحفوظ ( ب )
تغص الغرفة باصدقاء اخي محفوظ من العرب والأجانب من الشرق والغرب .. فرنسيين وبريطانيين وروس ويونان وطليان وامريكان وهنود ولاتينيين وقوميات أخرى ..وكل فترة ينضم اليهم وافدون جدد ، حتى انك لاتجد فيها موطيء قدم ، بعضهم كان يمتطي الشعر في اجنحة الفلسفة ، لكن رغم اختلاف قومياتهم ولغاتهم وافكارهم كانوا اصدقاء الكلمة والحرية !
في تلك الغرفة الغريبة كما سماها ابن عمتي عبد الله عمر المضي ، كنت ترى البحر والصحراء يلتقيان دون ان تفصل بينهما مسافة ، رغم البعد الشاسع بينهما كانت توصل بينهما الكلمة .
ينفتح البحر بكثافة ويبلل موجه الصاخب جدران الغرفة ، بقصص البحر والبحارة ومعاناة الناس اليومية ومايحيط بها من اخطار في روايات حنا مينا : المصابيح الزرق ، والشراع والعاصفة ، والياطر ، وحكاية بحار ، ونهاية رجل شجاع ..
وتحضر الصحراء بقوةوعنفوان ، في مدن منيف الملحية ، الثروةالتي تخرجها الرمال المقفرة " النفط " وماتحدثة في بنية المجتمعات العربية من تحولات ، دون ان يتخلى عن عذابات المعتقلين الذي بدأه في " الاشجار واغتيال مرزوق " ، وواصله في " شرق المتوسط " ، لتنضح من جدران السجون في " ارض السواد " و" حين تركنا الجسر " و سباق المسافات الطويلة " ، فالبحث عن الحرية في المدن العربية يتحول إلى قمع وسجن وتعذيب وتصفية جسدية وتعسف على يد انظمة الحكم الاستبدادية .
في الغرفةالصغيرةالغريبة ، مساحة شاسعة لمأساة الفلسطيني : وهل يمكن إلا ان تكون حاضرة باشعار ابراهيم وفدوى طوقان ، ومحمود درويش ، وتوفيق زياد ، وسميح القاسم ، وطه محمد علي ، ومعين بسيسو ، وهارون هاشم ، وعز الدين المناصرة ، وكمال ناصر ، وبالقصة والرواية ايضا بحضور مكثف لغسان كنفاني منذ اولى رواياته. " رجال في الشمس " التي يدين في نهايتها الماساوية كل الذين كانوا سببا في النكبة وضياع فلسطين ، بدء من القيادات العاجزة ، والقيادات الخائنة ؛ والشعب المستسلم ، وانتهاء بالذين تخلوا عن الأرض ليبحثوا عن خلاصهم الخاص ، من خلال فجاعية الرحلةوالموت الماسوي للابطال الثلاثة داخل صهريج بين عمان والكويت . كان سائق الصهريج " ابو الخيزران " عنينا لاشك فيه ، وهو رمز للقيادة التي قادت الى النكبة ، فكان الموت حتميا عندما تأخر عليهم ، فماتوا مختنقين داخل الصهريج! وكأن غسان كنفاني يقول لهم لاحياة لكم إلافي الوطن ، حتى إذا متم في فلسطين فتموتون في سبيل الارض والقضية .
ويتابع تطورالفلسطيني اللاجيء في عائد إلى حيفا ، وارض البرتقال الحزين ، عن الرجال والبنادق ، ماتبقى لكم ، ام سعد ، موت سرير رقم 12، والقبعة والنبي ، والقنديل الصغير .
تتنفس الغرفة الحب والحرية مع فتيات إحسان عبد القدوس : لاتطفيء الشمس ، والبنات والصيف ، وبشيء في صدري ، جعلني لا انام ، وفي بيتنا رجل ، لا يمكن رؤيته من النظارة السوداء إلا بإحداث ثقوب في الثوب الأسود . ولم افهم النفس البشرية إلإمع ديستوفيسكي الذي يجعل الأبله يتنفس قبسا من الجنون والحكمة ، ويقدم تحليلات ثاقبة للحياة السياسية والاجتماعية والروحية الروسية في الجريمة والعقاب ، والاخوة كارمازوف ، وبيت الموتى ، والانسان الصرصار ، والشياطين . وذلك الفيلسوف العبقري ليون تولستوي جعلني اكره الحرب ، وان الانسان يمكن ان يكون غير ذلك الوحش الذي يقتل ويسفك الدماء ويستطيع ان يجد طريقه إلى السلام . ومع آنا كارنينا يتحرك الحب في إطار يختلط فيه الصراع بين العقل والقلب ، بين الحب والواجب ، بين التخلف وحركة التنوير . وذلك النبي الذي يمنحه جبران مرتبة المجنون ، وتحمله الأجنحة المتكسرة لتعيد إليه معناه المفقود . وفي غرفة اخي محفوظ لاتدري كيف حل روميو وجوليت ، وعطيل ، والملك لير ، وهاملت جميعا في روائع شكسبير المسرحية ! ومع كازانزاكيس ليقنعك ان المسيح يصلب من جديد امام عينيك ، في صورةتجسد عذابات المسيح ، وصراع الانسان طول التاريخ من اجل حياة اسمى ، او كيف يمكن للمثقف الغني باسيل ان يتعلم من زوربا اليوناني العصامي ، فليس الوعي الذي يأتي من الدراسة والكتب يعلمك الحياة بل ايضا الوعي الفطري والغريزي من تجارب الانسان في الحياة ، والخيميائي الباحث عن الذهب ، يكتشف في الاخير ان حلمه الذي جاب العالم من اجله كان بين قدميه ، اعشاب ساحرة بورتوبيللو مع باولو كويليو . وذباب سارترلايختلف كثيرا عن طاعون البيركامو ، فكلاهما يسببان الموت !
لم يكن هدرا غير منطقي ذلك الجهد الجبار الذي بذله همنجواى في الصراع بين الانسان وقوى الطبيعة ، وتصويره الصراع الملحمي بين السمكة والعجوز او : الشيخ والبحر ،وفي انتصار الانسان على قوى الشر ، ومن اعماله العظيمة : وداعا للسلاح ، ولمن تقرع الأجراس ، وثلوج كلمينجارو ، فقد تخطت كلماته الآفاق ووصلت إلى جدران بيتنافي المشقاص .
يتخطى اخي محفوظ الحدود كل مرة والخطوط الحمر ، وبيتنا الديسي ويجعل من مدن ومناطق العالم مسرحا لرحلاته الفذة ليكتشف ويكشف عن المكامن الرائعة في القراءة وكيف تقودك إلى عوالم مدهشة وانت جالس في مكانك تشرب القهوة او الشاي ، اوتسرق الوقت بين زبون وزبون !
..دائما كان يجد طريقه إلى المدن في مختلف القارات مهما كانت بعيدة ، إلى العلاقات الاجتماعية والإنسانية وتشابكها وتعقيدات النفس البشرية ، قصص الحب.. الصراع الأزلي بين الخير والشر ..الأحلام التي يحلم بها الإنسان مرات .. منها مايتحقق ، واغلبها تتبخر في الهواء ولايعود يتذكرها. ..قسوة الواقع وصراع البقاء .. الحياة التي تشبه ساحة حرب البقاء فيها للأقوى .. مرات ينتصر الحق ، ومرات كثيرة تكون الغلبة للباطل وإن كان الحق واهله على حق !