عندما اراد الله ان يشد عضدنبيه موسى اختار له اخاه من بين كل اقاربه" سنشد عضدك بأخيك هارون "       
  اخي فرج ، لم يكن بمثابة الأخ الأكبر فقط ، بل الأب ايضا حتى مع وجود ابي .
 دور تحمله الحياة للأخ البكر او الأكبر . منهم من يتحمله بجدارة ، ومنهم من يتحمله على مضض ، ومنهم من يتخلى عنه ! 
   اخي فرج كان من النوع الأول ، تحمل المسؤولية بكل جدارة وسعادة ونكران ذات ..ليس نحوي فقط بل إتجاه كل الأسرة ، لاأقصد المادية ، فهذه يمكن ان يقوم بها اي شخص مقتدر لو اراد ، بل  الشعور انك تقوم مقام رب الأسرة بكل الحب حتى مع وجوده .  
اخي فرج قام بهذا الدور دون ان يشعرنا  بأنه صاحب فضل ، مع ان عددنا لم يكن قليلا ..
  عندما كنا صغارا ، كنا نشعر نحوه بهيبة خاصة ، مع انه لم يكن متواجدا كثيرا . بضع اشهر كل عدة سنوات عندما يعود في إجازة . نحسب حسابه حتى في غيابه . في رسائلي له كنت اسميه " ولي نعمتي" ! يبدو انني استعرت اللقب من إدماني روايات نجيب محفوظ التي شرعت في قراءتها في تلك الفترة من عمري المبكر من مكتبة اخي محفوظ . 
   كبرنا وحل الإحترام محل الهيبة . .
 من نظرة نعرف ماذا يعني وماذا يريد .. كانت تغني عن اي توبيخ ،أوزجر باختصار تعني انك اخطأت ، او اتيت بسلوك غير مقبول وعليك الا تكرر ذلك ..
  كان ذلك اسلوب تربيته لنا نحن اخوته ، ولأولاده ايضا ، ولأبناء اخي محفوظ ، لم يكن يفرق بين احد منا أبدا ..ولم يكن يلجأ للضرب .. التربية عنده كانت بقوة المثل وليس بالعنف ! 
     ذات يوم بلغ عددنا في بيت الأسرة الكبير في القويرة بالديس نحو عشرين ، فيما نسميه الأسرة الممتدة. نعيش في بيت واحد ، الجد والجدة ،الأب والأمهات ، الاخوة والاخوات . الأبناء والأحفاد ، ناكل في مسرفة واحدة ، لم يكن الطعام كثيرا ، بضع اقراص خبز وزيت سمسم ، تمر ، سمك ، ارز .. يكفي وزيادة ، لكن فيه الكثير من البركة . في حضرموت عموما والديس خصوصا لاتزال هذه الروابط الأسرية متشابكة قوية كأن اهل الديس كلهم اسرة واحدة ..
     مثل كل الحضارم ، ركب اخي فرج البحر . هجرته الأولى ، كانت في اثر أبيه اومعه إلى شمال الصومال . في ريعان شبابه كان ، والمجتمع هناك اكثر انفتاحا . تعلم اللغة الصوماليةوالرقص بسرعة ، الرجال والنساء يرقصون معا ..خشي ابي عليه من سحر الصوماليات فاعاده إلى الديس علىأول سفينة !
   جينات الهجرة التي تجري في دمه ككل الحضارم ، لم تعتقه فسافر إلى عدن .. سيدة البحار والتجارة قبل ان ينحسر عنها البحر .. ! 
    اشتغل في دكاكين العطارة في "كريتر " في اقدم احيائها في جبل العيدروس  حيث ضريح ومسجد ولي الله الصالح ابوبكر بن عبد الله العيدروس .. هناك رأيته في زيارتي الأولى لعدن مع أبي ، وفي حافتى القاضي وحسين  بعد ذلك . كانت عدن حينها قطب المقناطيس ، تجذب إليها السفن ، الأجناس من كل القارات وبضاعة العالم ، وتعيد تصديرها إلى بقية الدنيا ..
    في تلك الايام كان هناك مايسمى  "الشريك"  بالعمل او المجهود . يوفر التاجر الكبير مالك الدكان راس المال ، ويشارك العامل او الشحاري بجهده وعرقه وهو وشطارته،ويتقاسمان الأرباح بنسبة يتفقان عليها . وكان اخي يشتغل وفق هذا النظام خاصة بعد ان اكتسب الخبرة من عمله سنوات في تجارة التجزئة .
 امتصت دكاكين العطارة التي قضى فيها جل عمره الكثير من صحة اخي فرج ، وجهده ، واورثته العديد من الامراض ، وإحداها اجبرته على دخول المستشفى .
 
  *****

  لفحة هواء باردة ، رائحة ديتول نفاذة ، "وايدين " ، لفحت وجهي بمجرد ان دلفنا من الباب الزجاجي إلى رواق شديد البياض ،  شديد البرودة ، واكبر كمية نظافة يمكن ان تراها العين .. لايمكن ان انسى تلك الرائحة على الإطلاق حتى بعد مرور حوالي ستين سنة على ذلك .كان ذلك يوم استأصل اخي فرج الزائدة الدودية في مستشفى الملكة في خور مكسر في مطلع ستينيات القرن العشرين الماضي ، يومها ذهبناكلنا ، ابي وامي وبقية اخوتي الصغار لعيادته والاطمئنان على صحته .. الغرفة " البرويت "  التي كان يتمدد فيها بعد العملية ايضا كانت شديدة البرودة ، النظافة ، وكل مافيها شديد البياض.. الجدران ، السرير ، الملايات ، الكومدينو ، وملابس السستر .
   كانت أمي اكثرنا قلقا عليه ، اما نحن فقد كنا صغارا لا ندرك بعد معنى إجراء عملية جراحية ، اخي فرج ارانا يومها الزائدة التي استئصلت منه .. ملتهبة ومحفوظة في زجاجة فوق " الكومدينو " .. هذه إذن التي كانت تسبب كل تلك الالام الشديدة لأخي وتجعله يتلوى كأفعى ..
 اخي فرج يحرص على ان يتكلم مع أمي باللغة الصومالية التي تعلمها خلال وجوده في عيرجابو ، ولم ينسها ، لم يكن يناديها إلا " هويو ".. وعلى زيارتها عندما يكون في عدن ، صاعدا السلالم إلى الدور الرابع ، ويحملني بالهدايا لها ولأخوتي الصغار عندما ازوره في الحديدة بعد ان انتقل للعمل فيها ، بالرغم من إرادته ، وعلى غير مايحب بعد إنحسار التجارة عن عدن وسيطرة الدولة على التجارة !  
  كان بوسع اخي فرج ان يكون غنيا ومن اصحاب رؤوس الأموال ، في الحديدة ..  حين ذهب إليها للعمل كانت لاتزال بكرا ، والأراضي شاسعةتباع بسعر التراب ، يكفي ان ترمي حجرا إلىاقصى مايصل مقذوفك فتشتري تلك المسافة بنحو ريال ماريا تريزا فقط ! اثرى كثيرون من عملية شراء الاراضي هذه من السكان المحليين ، وصاروا من كبار التجار .كثيرون نصحوه ، كما اخبرني بنفسه بالشراء الا انه رفض .  
  - لماذا يااخي فرج ؟
 ربما لأنه كان يستحضر المثل الحضرمي " مال ماهو في بلادك ماهولك ولالأولادك "   ربمااستحضر صور الحضارم الذين رجعوا من مهاجرهم " ربي كما خلقتني "  بعد ان استولى المواطنون الأفارقة على كل ما حوشوه خلال اعوام بعد استقلال بلدانهم من الاستعمار !! وربما كانت في ذهنه الصورة الأقرب إلى ذهنه في عدن حيث سيطرت الدولة على ممتلكات التجار إلا من استطاع تهريب امواله المنقولة إلى اليمن !! 
  فرج اخي لايقول لك الجواب ..عليك ان تستنتج ذلك بنفسك من الطريقة التي يحكي فيها . لايشعرك بأنه نادم لأنه لم يشتر مثل الآخرين اراض عندما كانت برخص التراب ، او انه يحسد احدا منهم او انه نادم لأنه اضاع فرصة لاتعوض !! اكتفى بعمله الطويل مع نفس التاجر في الحديدة الذي افنىفيه بقيةشبابه وعمره ولم يجن الا القليل ..ربما يعود ذلك إلى طيبة اتسم بها البحاحيون من ناحية ، ومن اخرى ، عدم تقدير من يعملون لديهم واستغلالهم الفاحش لتلك الطيبة ! 
  عاد اخي إلى الديس بعد أن قارب غابة الكهولة ليقضي مابقي له من عمر بين اسرته التي قضى اغلب العمر بعيدا عنها ، لكنه كان حريصا على زيارتها كل عدة سنوات ، تحمل لسع حرعدن والحديدة الأشد حرارة ورطوبة ، عطانة دكاكين العطارة ، والعمل ساعات طويلة .. عاش زمن إزدهار عدن التي اجتازها يوما شابا يافعا ..ورأى إنحسار البحر والتجارة عنها. وزمن نمو الحديدة . راءها وهي تكبر و تتسع وتتمدد بلانهاية عبر الأراضي التي اشتراها تجار وافدون اواغتصبها نافذون من سكانها الطيبين الذين ظلوا على فقرهم ، ويزدادون فقرا مع السنين .. امتلأت الحديدة بالمباني والشركات والهوامير ، وظل اهلها في بيوت القش او بيوتهم في احيائها القديمة ، أجراء في اراضيهم التي انتزعت منهم ..اخي فرج لم يشترك في هذا الظلم على الإطلاق ، وهذا مامنحه راحة الضمير ، وسلام النفس .
  المرة الأخيرة التي رأيت فيها أخي فرج ، كان سنة 2007م في المنزل الذي بناه ابنه احمد في الديس غير بعيد من بيت الأسرة الكبير حيث عشت طفولتي ، سنوات العمر الجميل ..لم اكن وحدي ، كانت اسرتي معي ، زوجتي واولادي الذين يرون بلاد ابيهم وجدهم لأول مرة . كنت اريتهم في النهار الصيق ، والنخيل ، والحصن ، وميناء القرن .. والان كنا نتناول العشاء مع  اخي الكبير واسرته في ريم من ريوم الديس ..
السماء عندما نظرت اليها كانت مرصعة بالنجوم ، وتنظر الي كأنها تحتفي بعودتي بعد غياب طويل فيما فكري يعبر بعيدا ، إلى سطح دكان اخي في حافة القاضي في كريتر حيث كنا ننام الليل نلتمس نسمة هواء عليلة في حر عدن القائض ، وبلمحة خاطفة تذكرت ماحكاه لي ابي من ان اخي فرج كان يمشي في نومه على حافة سطح الدكان دون ان يسقط ! 
    نظرت إلى وجه اخي فرج فابتسم .كان ذكيا ولماحا فعرف ماجال في خاطري تلك اللحظة ، ولم يلحظ سوانا ذلك !
  سألني إذا كنت سامكث لبعض الوقت حتى ارى بقية الأهل ..عمتي سلطانة واختي آمنة والاخرين ؟ 
اجبته : ساسافر غدا ، لكن سأعود قريبا إن شاء الله . 
  لم استطع ان افي بوعدي له .. جرفتني ظروف الحروب اليمنية التي لاتتوقف بعيدا ، وتوفي اخي فرج رحمه الله وانا في مصر .