مع الشاعر الإنجليزي جون كيتس
عندما زرت هولندا قبيل حلول الألفية الثالثة، في عام 1999م، اقتنيت من مكتبة لبيع الكتب المستعملة في مدينة أوترخت كتابا ضخما أشبه بقاموس -أي أن مواضيعه مرتبة حسب ترتيب حروف اللغة الإنجليزية- عنوانه (مرشد أوكسفورد إلى الأدب الإنجليزي) The Oxford Companion to English Literature . وكلمة (كومبانيَن) من الكلمات التي جرت على ألسنتنا -وكنا نسبقها بأل التعريف- منذ السنة الأولى لنا في تعلم اللغة الإنجليزية، إذ كان لكل كتاب من كتب منهج اللغة الإنجليزية السوداني، التي عليها اسم وشعار دار Longman، كتاب صغير رديف له يساعد الطالب في فهم القواعد أو معاني الكلمات أو حل التمارين، لأن العهد قد بعد بيني وبين أيام التلمذة ولم أعد أتذكر ما هو بالضبط محتوى الكومبانيَن. وما دعاني إلى افتتاح حديثي عن كيتس بذكر هذا الكتاب هو أنني عندما فكرت في الكتابة عن هذا الشاعر، اكتشفت أن من بين كتبي القديمة كتابا مترجما عن شعراء الرومانسية الإنجليز يستهل كل فصل عن أحد الشعراء بترجمة -أي سيرة موجزة- له مأخوذة من (مرشد أكسفورد إلى الأدب الإنجليزي)، ومثل هذه العلاقة بين كتب تضمها مكتبتي المتواضعة تبث في نفسي شعورا بالفرح والمتعة. وعنوان هذا الكتاب (الرومانتيكية في الأدب الإنجليزي) (1)، ينما أنا أفضل استعمال مصطلح (الرومانسية) -الذي يستعمله الدكتور عبدالقادر القط- بدلا من (الرومانتيكية).
ويقول مرجع آخر في مكتبتي -والعهدة على مؤلفه- مستعملا طريقة ثالثة لتعريب المصطلح إن جون كيتس هو أعظم شعراء العصر الرومانطيقي في الأدب الإنجليزي، ويعتبره الكثيرون أعظم شعراء الإنجليزية بعد شيكسبير. ولد عام 1795 إبان الثورة الفرنسية، ومات بمرض السل في عام 1821 في روما وهو في الخامسة والعشرين من العمر، ورثاه الشاعر الرومانسي شيللي في قصيدة رائعة (2) درس كيتس الطب، واجتاز امتحانه بنجاح، ولكنه لم يعمل طبيبا، إذ غلبه حبه العميق للأدب. وفي عام 1816 نشرت له قصيدة عن ترجمة تشابمان لهومر (3) عنوانها: بعد الاطلاع لأول مرة على ترجمة تشابمان لهومر On first looking into Chapman's Homer . وهومر هو الشاعر اليوناني الضرير والشهير -صاحب ملحمتي الإلياذة والأوديسة- الذي ترجم أشعاره جورج تشابمان إلى اللغة الإنجليزية، فالشاعر كيتس درس اللاتينية والتاريخ وبعض الفرنسية ولكنه لم يدرس اللغة اليونانية لغة، هومر. وهذا شبيه بقولنا إن أبا القاسم الشابي لم يكن يعرف لغة أجنبية فقرأ أدب الغرب مترجما إلى اللغة العربية. وكان أديبنا الحضرمي علي أحمد باكثير في مطلع شبابه وبداية تعرفه بأمهات الكتب قد فعل شيئا مشابها، إذ إنه كتب قصيدة بعد اطلاعه على كتاب (الأخلاق عند الغزالي) للدكتور زكي مبارك افتتحها بهذه الأبيات:
إنما المجد للنفوس الأبيّة/ ولشعب لا يرتضي بالدنيّة
ولمن يؤثر الحقائق بيضاء على ترهاته الوهمية
ولمن ودع الخيالات والأوهام من كل شرعة جاهلية
ولمن نزه الشريعة مما/ وصمتها به الفئات الغوية
ولمن أسس المدارس في الأوطان حبا في الله والوطنية
ولمن سلَّ في محاربة الأوهام أمضى سيوفه القلمية
وفي مقطع لاحق من القصيدة ذكر زكي مبارك وكتابه بالاسم -كما ذكر كيتس اسم هومر في قصيدته- فقال:
حي سفر الأخلاق عند الغزالي/ للزكي المبارك الألمعية
فهو سفر قد خطه قلم الحق بحبر الحرية الفكرية
فلتطب يا زكي نفسا بمسعاك وإن أغضت العقول الغبية
ما على الشمس من جحود سناها/ وهي تلقي الأشعة النورية
فاحتسب عند ربك الأجر يا من/ هو فخر الشبيبة المصرية
وفي مكتبتي حصيلة جيدة من المجموعات ودواوين الشعر الإنجليزية اقتنيت بعضها بنفسي وأُهدِي لي بعضها الآخر من أصدقاء أعتز بهم. ومن هذا النوع الأخير مجموعة تقع في قرابة خمسمئة صفحة تضم مختارات منتقاة بعناية للشعراء الإنجليز والأمريكان من القرن السادس عشر حتى القرن العشرين. عنوان هذه المجموعة: كتاب بنجوين للشعر الإنجليزي The Penguin Book of English Verse، وكان قد أهدانيه صديقي المهندس أحمد محمد باداؤد عندما كنا زملاء في الدائرة الهندسية بالمكلا عند عودته من رحلة له إلى المملكة العربية السعودية، وأهداني مع هذا الكتاب مسرحية (بيجماليون) لبرنارد شو. كم كنت سعيدا بهذه الهدية الغالية التي لم أكن أتوقعها، وكم أنا سعيد الآن أن سنحت لي الفرصة لتوثيق هذه المكرمة. لعل صديقي أحمد شعر -من خلال حواراتنا آنذاك- أنني في أعماقي لست مهندسا وإنما أنا أديب ضل طريقه إلى الهندسة! كانت تلك المختارات الشعرية مرتبة حسب التسلسل الزمني للشعراء وقد وضع أمام اسم كل شاعر تاريخ ميلاده وتاريخ وفاته. ووردت للشاعر كيتس في الكتاب سبع مختارات هي:
بعد الاطلاع لأول مرة على ترجمة تشابمان لهومر
أنشودة إلى البلبل
أنشودة عن إناء إغريقي
إلى الخريف
أنشودة عن الحزن
جزء من قصيدة هايبريون
أيها النجم النيِّر
وهناك قصيدة للشاعر كيتس عنوانها (الخيال) Fancy لم ترد في هذه المجموعة ولكنني عثرت عليها في مجموعة أخرى وترجمت جزءًا منها وكانت تلك من أولى محاولاتي في الترجمة، إذ كنت قد ترجمت بعض القصائد والقصص القصيرة قبل أن أدخل في ترجمة الكتب. وقد وجدت ترجمة لهذه القصيدة في كتاب (الرومانتيكية في الأدب الإنجليزي) تحت عنوان (مملكة الخيال). وأحسب أن ترجمتي -أقولها بكل تواضع- كانت أفضل من ترجمة الكتاب، إذ إنني بثثت فيها روح الشعر واستعملت طريقة التقفية الموجودة في الأصل:
Ever Let the Fancy roam
Pleasure never is at home
وسأنقل هنا مقطعًا من ترجمة الكتاب، وأختم المقالة بنفس المقطع من ترجمتي بوصفه نموذجا من شعر الشاعر الإنجليزي الكبير، جون كيتس، الذي كان أحد من ماتوا من الشعراء في ربيع العمر.
مملكة الخيال
(ترجمة كتاب: الرومانتيكية في الأدب الإنجليزي)
دائما دع الخيال يهيم
فالمسرة لا تستقر أبدًا بمسكن
المسرة العذبة من لمسة تذوب
كالفقاعات حين يرجمها المطر
لتدع الخيال المجنح إذن يهيم
خلال الفكر الممتد إلى ما ورائه (كذا)
افتح باب سجن العقل على مصراعيه
فيندفع الخيال، ويحلق نحو السحاب
إيه أيها الخيال العذب! فكوا إساره
إن ملذات الصيف يفسدها التداول؛
ومتعة الربيع
تذوي كما تذوي أزهاره
،،،،،
الخيال
(ترجمة: نجيب سعيد باوزير)
دوما دع الخيال يطوف
فالمسرة ليست أبدا حبيسة الكهوف
إن المتعة العذبة من لمسة تذوب
كفقاقيع القطرات عندما الغيث يصوب
دع الخيال المجنح إذن يهيم
في آفاق الفكر الممتدة وراء التخوم
افتح على مصراعيها مغاليق سجن البال
يمرق قُدُمًا ويحلق نحو السحاب الخيال
ياللخيال المعسول! هلّا أطلقتموه
كم فرح للصيف لكن العادة تمحوه
وكم متعة للربيع
تذوي كما تذوي أزهاره وتضيع
-------------
الهوامش
(1) ترجم هذا الكتاب عبدالوهاب محمد المسيري بالاشتراك مع د. محمد علي زيد، وصدر عام 1964م، وكان المفكر الكبير عبدالوهاب المسيري لم يحصل على شهاداته العليا بعد. ولكنني عثرت في الإنترنت على طبعة أخرى، معدلة فيما يبدو، من الكتاب، صدرت في عام 1979 بوصفها الطبعة الأولى وحملت عنوان (مختارات من الشعر الرومانتيكي الإنجليزي).
(2) انظر كتاب: المنتخب من الشعر الإنجليزي، تأليف: عبدالرحمن بشناق، مطبعة دير الروم الأرثوذكس-القدس، ص150.
(3) انظر كتاب: الرومانتيكية في الأدب الإنجليزي، ترجمة: عبدالوهاب محمد المسيري و د. محمد علي زيد، مؤسسة سجل العرب، 1964، ص281.
غيل باوزير
12 ديسمبر 2024م