استعادة الماضي في سردية ( أشيائي) لمحمد بحاح (2) ● الاحتفاء بالبهجة والفرح...الرقص والطرب
صوت عدن :
من هذه المشاهد الاحتفائية اللافتة في السردية للرقص والغناء، مشهد الزيارات في "المشقاص" التي تتزامن مع أشهر الخريف، فتجد البدو والحضر يحرصون على حضورها وقلوبهم تدق بالبهجة؛ لأنهم سيحظون بمراقصة ملكات الرقص المشقاصيات على ضوء القمر. ومواعيد زيارة "هبورك" و"حلفون" و"المقد" تسطع في تلافيف ذاكرتهم، ولا تحتاج إلى من يذكرهم بها. والسارد نفسه احتفى بهذه الزيارات ممارسةً وكتابةً، فقد كان والده لا يحرمه منها، فكان يصطحبه معه.
فصوت نأياتها ظل يترنم في وديان قلبه، فيذكر تلك الأيام الزاهية بالفرح والمرح، فأول ما يصل "محمد" إلى حلبة الرقص يسارع بالدخول إليها ويرقص مع الراقصين، وبتعبير السردية "يهبش الهبيش"، ويمني نفسه بأن يسعفه الحظ ليحظى بضمة يد من إحدى ملكات الرقص المشقاصيات ليراقصها.
الراقصات يكن مدار اهتمام الجميع في أثناء نزولهن إلى الحلبة، و"محمد" إذا حظي بضمة يد إحدى ملكات الرقص يشعر بنشوة، وتصير له أجنحة فيطير بطاقة البهجة والفرحة المشتعلة بين جوانحه.
هذه الزيارات جمعت في المكان نفسه بين زيارة الأولياء، التي تُذكر فيها الأوراد والأذكار والدعاء لله ليرفع الكربات والملمات، وبين كرنفالات الرقص والغناء وشدو النايات أو "المدروف" بلغة البدو. وكل من يجذبه هذا المكان المتلألئ بالليالي المقمرة، يسمح لنفسه أن يرقص ويغني تحت عنوان تلك المقولة الملونة بحكمة المسامحة، الرافضة للعداوة بين العبادة والتسلية، بمنطوقها الشعبي الذي يقول: "أهل السلا في سلاهم وأهل العبادة يصلون".
السارد اختار عنوانًا ينضح بالتعاطف والانحياز للغناء والرقص، وأتى على هيئة تساؤلية: "من يسرق الناي؟". ولعل هذه الهيئة عززت انحيازه التام وكشفت عن تحسره وعضّه أصابع الندم على تلك الأيام الجميلة، وربما حانقًا على تلك الجهة التي سرقت البهجة والفرحة، فلم يعد "يهبش الهبيش"، ولا يسمع الناي.
(2)
أما المشهد الثاني الذي احتفى به السارد فهو تجربته مع رفقة عمره بالمعهد الديني بحاضرة العلم والنور بغيل باوزير. ففيها تكثفت تجربة تربوية وتعليمية باهرة، تمثلت في المدرسة الوسطى والمعهد الديني والثانوية الصغرى في مرحلة الستينيات. وبفضل هذه المنارات الثلاث التي سطعت بنور العلم، تزينت سماء حضرموت بنجوم من الكوادر أمدت الوطن بالخبرة الإدارية والتعليمية، وبتعبير السردية: "كانت مصنعًا لرواد التربية والتعليم والإدارة".
المتتبع لمسار التوظيف في الإدارات الحكومية بالمكلا سيجد أن نسبة الموظفين القادمين من "الغيل" هي النسبة الأعلى بسبب الزخم التعليمي فيها.
إن المعهد الديني بمنهجه الأزهري مثّل تجربة في التربية والتعليم لافتة، يمكن أن تكون نموذجًا ملهمًا لمدارسنا اليوم. ففي هذا المعهد الديني يتلقى الطالب الدروس الشرعية الإسلامية والمدنية مثل تعليم الرياضيات واللغة الإنجليزية ليقوي عقله، ولا يُحرم من الرياضة البدنية، من كرة القدم إلى الجمباز إلى كرة الطائرة والسلة، ليقوي جسده.
بل يستمع داخل المعهد الديني نفسه إلى الجرامفون الذي مثّل أعجوبة الزمان في عصره. فمنه يستمع إلى سور من القرآن الكريم، ومن الجرامفون نفسه استمع إلى أغاني أم كلثوم وعبدالوهاب وعبدالحليم وأبوبكر سالم ومحمد جمعة خان، كل ذلك للرفع من مستوى ذوق الطالب الجمالي والفني.
يساعد المكان بمشاهده البصرية الجميلة من نخيل وأشجار على رفع درجة التفاعل مع صوت الجرامفون. أما المكتبة الملحقة بالمسجد داخل المعهد، فلا تقتصر كتبها على الفقه والحديث والتفسير، بل تشمل أيضًا كتب الشعر والروايات.
□
بعد ذلك، فإن تجربة المعهد الديني الأزهري مع الجرامفون تجربة دالة على ذهنية إدارية منفتحة في الزمان الذي مضى. ولا يمكن اليوم، في الزمن الحاضر، أن يتجرأ أي معهد ديني على وضع نفسه في مثل هذه التجربة.
السؤال الذي يمكن أن يسأله القارئ على هامش هذا الاستماع من الجرامفون نفسه للقرآن والغناء هو: هل ثمة علاقة اشتراك في استخدام المقامات في تلاوة القرآن الكريم وفي النظام الصوتي للغناء؟
نعم، كلاهما يستخدم المقامات، مع الاختلاف الشديد بينهما في طريقة الاستخدام والغايات. فالتلاوة القرآنية تعتمد كليًا على الصوت البشري الخالص الرامي إلى التأثير على السامع للإيمان بالله، وإدخال الخشوع والجلال والمهابة والوقار والورع إلى قلبه. بينما الغناء يعتمد على الأصوات البشرية والآلات، ويرمي إلى الطربية والفرح وتذوق الجمال الدنيوي.
وبمناسبة الحديث عن الغناء والطرب، فإن التجربة تبرهن أن من أتقن الغناء والطرب من كبار الفنانين، مثل أم كلثوم وعبدالوهاب وصباح فخري وأبوبكر سالم بلفقيه وغيرهم، قد مروا بتجربة الانصات و تلاوة القرآن الكريم قبل أن يخوضوا تجربة الغناء والطرب.
(3)
ومن أجمل باقة الورود في الاحتفاء بالغناء والطرب وردة المطرب عمر محفوظ المضي، فالسردية احتفت به بطريقة باهرة إلى درجة أنها رفعت من شأنه واختارت له عنوانا ينتسب إلى السماء وليس إلى الأرض وهو:(عمر محفوظ المضي. ملاك بصورة إنسان) وكررت العنوان نفسه ثلاث مرات، والقارئ المتابع للسردية يجد عبارات تدل على الانبهار، ولا تصدر إلا عن من سمع عذوبة صوته الذي ظل يرن في أذنيه، وفي حوار مع محمد بحاح قال لي (كنت أحضر بعض جلساته الخاصة جداً، بصحبة ابي، وسمعت فعلاً صوته الأخاذ وهو يغني لعبد الوهاب ومحمد جمعة خان ، ولم أسمع صوتاً يشبه صوته، أو أداءً يشبه أداءه من الفنانين الذين اشتهروا في ذلك الزمان) وبسبب انبهاره وانفعاله الشديد بصوت المضي قال:(لو انه احترف الغناء لاضطر كثير من الفنانين إلى الاعتزال ولأصبح من شيوخ الطرب الذين يشار إليهم بالبنان) إلا أنه لم يحترف الطرب وظل إلى آخر حياته هاويا، وسلم الكثير من أنصاف الفنانين من الاعتزال، وعلى ولعه الحاد بالغناء والطرب، وتمكنه من الغناء والعزف بالعود ودق الإيقاع، ومعرفته بأسرار الموسيقى، إلا أنه عاهد نفسه بأن يبقى في مربع الهاوي الضيق الذي يصر ألا يُسمع صوته إلا للمقربين وأصدقائه داخل مجلسه الخاص، أما الجمهور فقد خسروا صوته العذب، فكانت النتيجة المنطقية أن بقي معروفا ومحبوبا بين جلسائه، ومجهولا وغير معروف بين الناس بسبب إصراره عن الابتعاد المتعمد عن وسائل الإعلام، رغم حرص أكثر من جهة إعلامية في الداخل والخارج على تسجيل أغانيه وهي تأتي إليه ولا يأتي إليها، وتطلب منه أن يسجل باقة من أغانيه التي يشدو بها لأنهم شديدو الإعجاب بفنه إلا أنه يعتذر من هذه الجهات ، ففريد بركات الذي كان مديرا للتلفزيون حاول معه أكثر من مرة وسهل الأمر له، بأن لا يذهب الى أستديو التلفزيون بل ستأتي عربة التصوير إلى بيته لكن دون جدوى.
إن شيخ المطربين المجهول (المضي) يغني ويطرب لوجه الغناء والطرب الخالص لا يتغيا منفعة مادية ولا شهرة في الأفاق والأنفس، تاركاً الشهرة لمن يسعى إليها بقوة، أما هو فكانت الشهرة تركض نحوه وتلاحقه وهو لا يبالي بها.
والسردية ترى فيه نموذجا ملهما ودرسا جميلا ونبيلا لمن يسعى بجنون إلى الشهرة من أول مرة يعتلي فيها خشبة المخدرة أو المسرح ويعتقد أنه قيصر الفنانين.
إن جلسة المضي لا يحضرها من هب ودب بل يحضرها من مارس الغناء والطرب، فمنهم من اشتهر ومنهم من في طريقه إلى الشهرة فيغنون ويستمعون لبعضهم البعض وحينما يغني المضي كان يطرب الجميع ويصفقون له بقلوبهم وبعيونهم التي تسطع ببهجة الطرب. كانت جلسة المضي الفنية كل خميس على صلة حميمية برموز الغناء والطرب في الخمسينيات والستينيات وما بعدها، ومن نجومها الذين يحضرونها بصورة غير دائمة (أحمد قاسم) الذي مثل له بيت المضي واحة للراحة والاستراحة، يأتي إليه وقت يشاء لإصطياد الألحان التي تهرب منه فيكمن لها حتى يأتيه الإلهام ووصفه ب (أبو الفنانين) وهي أبوة فنية، أما الموسيقار أحمد بن غودل من كثرة ما سمع من أغاني التراث من فم المضي وترديد الجلساء من الفنانين الكبار معه تبلورت عنده فكرة تأسيس فرقة الإنشاد التي حققت نجاحات باهرة في داخل الوطن وخارجه.
إن حب الغناء والطرب لم يكن عابرا بل أصيل عند المضي وبحسب السردية (مولع بالفن والموسيقى منذ صغره) فتغلغلت في عمق أعماقه وهذبته، وحدت من تفكيره الغريزي وتراجعت عنده الطبائع الخشنة واستوت في ضميره الطبائع الناعمة، ففمه الذي يصدر منه الصوت الغنائي العذب لا يعرف الشتيمة، وبطنه لا تعرف الشبع المؤذي ولا الشرب الكثير، إنه ملاك بصورة إنسان يمشي على الأرض.
(4)
ولم يفت السردية بأن تضم إلى مشاهد الاحتفاء بالغناء والطرب المشهد الجميل للشحاري (عمر) وهو يستمع من مذياعه في دكانه لأغانٍ لشيوخ الطرب في عدن، فأول ما تستقر شوكة مذياعه على صوت الفنان الماس أو القعطبي أو العنتري أو بامخرمة أو الجراش أو عمر غابة يتركها ولا يزحزحها إلا بعد أن تنتهي الأغنية فيتسلطن وترتفع طاقته للعمل، وذوقه لا يقتصر على هؤلاء بل ويطرب لأحمد قاسم ومنافسه المرشدي، فلا يغير شوكة مذياعه إذا صادف أن استقرت على زكريا أحمد أو عبد المطلب أو كارم محمود. وبمناسبة الغناء والصوت الجميل الصادر من أفواه أهل الطرب فإن أذن الشحاري مدربة على سماع الأصوات الجميلة فقد كان في بلدته بالديس الشرقية يستمع لأصوات الطيور، ومن صوتها يستطيع أن يميز نوعها وجنسها ولو تداخلت. وعلى جمالية أصوات الطبيعة بطيورها إلا أن الموسيقى البشرية لا تشبهها فهي مثل الأنثى الفاتنة لا تشبه إلا نفسها.
(5)
يبقى مشهد أخير وهو مشهد الفرقة النحاسية بعدن التي تعتمد على الآلات النفخية، ومن مزايا هذه الألات تكبير الصوت إلى درجة المهابة والجلال والشعور بطاقة التحدي والقوة وهي تعمل على حبس الهواء وتخرجه بصورة منغمة بوساطة الفم البشري، لذا يسند إليها عزف المارشات العسكرية. ألا أن هذه الفرقة نفسها تعزف مقطوعات من موسيقى بيتهوفن وهذا يعود أن من يعزفها قد تدرب على النوتة الموسيقية وهي ثقافة غائبة عند أغلب من يمارس الطرب والغناء داخل الوطن الكئيب.
يتبع(3)