استمعت إلى شعر أبي القاسم الشابي لأول مرة وأنا في الحادية عشرة من العمر. أتذكر أننا كنا ذات أمسية عدنية على سطح سكن (سفينة نوح)، كما كان يسمى لأنه كان يضم أشتاتا من الحضارم الذين كانوا يعملون في عدن في عصرها الذهبي ذاك، وكنا والدي وأنا ضيوفا على نزلاء (السفينة)، وكان بيد والدي نسخة من ديوان (أغاني الحياة) للشابي، وإذا به يتوقف عند قصيدة يبدو أنها أعجبته. وعرفت بعد ذلك أن القصيدة عنوانها (صلوات في هيكل الحب) لأنني ظللت أتذكر تلك الأبيات من القصيدة الشهيرة التي قرأها علينا والدي بإلقائه البارع وصوته الرخيم:
عذبة أنت كالطفولة كالأحلام كاللحن كالصباح الجديدِ
كالسماء الضحوك كالليلة القمراء كالفجر كابتسام الوليدِ
يا لها من وداعةٍ وجمالٍ/ وشبابٍ منعَّمِ أملودِ
يا لها من طهارةٍ تبعث التقديس في مهجة الشقي العميدِ
يا لها رقةً تكاد يرف الورد منها في الصخرة الجلمودِ
خطوات سكرانة بالأناشيد وصوت كرجع ناي بعيدِ
وقوام يكاد ينطق بالألحان في كل وقفة وقعودِ
كل شيء موقعٌ فيك حتى/ لفتةُ الجيد واهتزازُ النهودِ
بمثل هذه الأشعار (العذبة)، كما وصف فتاته، التي كان ينشرها في مجلة (أبوللو) في مصر، لفت الشابي إليه الأنظار، واشتهر شهرته الذائعة برغم عمره القصير. ولا بد أنني كنت قد استمعت في ذلك الوقت إلى أغنية المطرب (العدني) الصاعد أبوبكر بلفقيه (الصباح الجديد) ربما دون أن أعلم حينها أنها لأبي القاسم الشابي: 
اسكني يا جراح/ واسكتي يا شجون
مات عهد النواح/ وزمان الجنون
وأطل الصباح/ من وراء القرون
ومن منا لم يصل إلى أسماعه منذ زمن بعيد بيتا الشابي الشهيران من قصيدته (إرادة الحياة) اللذان كثيرا ما استشهد بهما الناس "حتى صارا كالأمثال" كما يقول الدكتور عبدالقادر القط(١) :
 إذا الشعب يوما أراد الحياة/ فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلي/ ولا بد للقيد أن ينكسر
وإذا أردنا أن نبقى مع الدكتور القط، فإن إشارته هذه وردت في معرض حديثه عن الشابي ضمن كتابه الجميل (الاتجاه الوجداني في الشعر العربي المعاصر). وقد ابتدع الناقد القط مصطلح (الاتجاه الوجداني) بدلا من استعمال مصطلح (الرومانسية) ليس تعصبًا للغة العربية ولكن آخذا بعين الاعتبار أن الرومانسية الأوروبية كانت تمثل اتجاها عاما شاملا للحياة بكل مظاهرها ومنها الأدب والفن، بينما عبر الشعراء العرب عن مشاعرهم وأفكارهم حول الذات والوطن والحياة بمعزل عن طبيعة الملامح الحضارية التي تسود مجتمعاتهم. ولكن الناقد القط تسامح أحيانًا -كما يقول- فاستخدم المصطلح الأوروبي "كلما اقتربت طبيعة الشعر أو موقف الشاعر من طبيعة الرومانسية الأوروبية اقترابًا يأذن باستخدامه"(٢) . وقد عد الناقد أبا القاسم الشابي بما يتجلى في قصائده من (وجدان جياش وخيال مستوفز) مقتربًا إلى حد كبير من طبيعة الشعر (الرومانسي).
ولد أبو القاسم الشابي في عام 1909م في بلدة (الشابية) -إحدى ضواحي مدينة (توزر) بجنوب تونس- وإليها ينسب. وعندما شارف على الثانية عشرة من عمره ذهب إلى تونس العاصمة ليواصل دراسته بجامع الزيتونة، وبعد ما يقرب من تسع سنوات حصل على إجازة (التطويع) -وهي إجازة إكمال الدراسة بالزيتونة- التي كان قد حصل عليها والده من قبل. وقد تكوَّن باكرًا وبدأ يقول الشعر وهو على مشارف الخامسة عشرة من العمر، إذ كان قد "كون لنفسه ثقافة واسعة عربية بحتة جمعت بين التراث العربي في أزهى عصوره وبين روائع الأدب الحديث بمصر والعراق وسوريا والمهجر، ولم يكن يعرف لغة أجنبية، فتمكن بفضل مطالعاته الواسعة من استيعاب ما تنشره المطابع العربية عن آداب الغرب وحضارته."(٣) 
عادةً ما يتم الربط بين الشاعر أبي القاسم الشابي وبين جماعة أبوللو ومجلتها مجلة (أبوللو) اللتين أسسهما الشاعر الدكتور أحمد زكي أبو شادي في مصر في عام 1932م، ولكن هذا التاريخ يسبق وفاة الشابي بعامين فقط، مما يلقي بظلال من الشك حول حقيقة هذا الارتباط ومدى (تأثر) الشابي بتلك الجماعة. وهذا ما دعا الناقد الدكتور القط إلى أن يقول بعد أن يشير إلى (الفضل الكبير) الذي ينسبه كثير من الدارسين إلى الجماعة والمجلة في نمو الحركة الوجدانية وظهور كثير من شعرائها المرموقين على مستوى الوطن العربي كله: "ولا ينكر أحد أثر المجلة في هذا المجال، لكن بعض الدارسين يبالغون فيه إلى حد يتجاوز الحقيقة بكثير. فالحق أن الاتجاه الرومانسي كان قد أصبح اتجاها متميزًا شائعًا قبل ظهور الجماعة ومجلتها التي لم يتجاوز عمرها ثلاث سنوات. وكان كثير من الشعراء الذين شاركوا بشعرهم في تحريرها قد نشروا بعض أشعارهم في صحف ومجلات سابقة على تلك المجلة أو معاصرة لها. فقد نشر الشابي -كما جاء في مقدمة ديوانه- بعض قصائده في جريدة (النهضة) عام 1928، ونظم أغلب قصائده -كما يُثبَت تاريخها في الديوان- قبل نشأة جماعة أبوللو وظهور مجلتها."(٤)  
ولكن المجلة كان لها أثر واضح في زيادة شهرة كثير من شعراء الاتجاه الوجداني من غير المصريين والتعريف بهم، ومنهم الشابي. يقول الدكتور محمد مندور في كتابه (الشعر المصري بعد شوقي): "ولد أبو القاسم الشابي ومات في وطنه تونس، ومع ذلك نكاد نعتبره شاعرا مصريا لأنه كان ينشر شعره في مصر وبخاصة في مجلة (أبوللو)، كما أنه اشتهر في مصر وذاع صيته."
ومن القصائد التي نشرها الشابي في مجلة (أبوللو) قصيدة (صلوات في هيكل الحب)، التي افتتحنا بها هذا الحديث عن الشابي، والتي ذُيلت في ديوان (أغاني الحياة) بتاريخ 13 أكتوبر 1931م. وكتابتها في هذا التاريخ أي قبيل تاريخ ظهور مجلة (أبوللو) -1932م-، وكونها من القصائد التي لا بد أن الشاعر كان يعتز بها، يرجح بشكل قاطع أنها من بين القصائد التي ألمح إليها شقيقه محمد الأمين الشابي في مقدمته لديوان (أغاني الحياة) عندما قال: "وقد نشرت له سنة 1933 بمجلة (أبوللو) المصرية قصائد عملت على التعريف به في الأوساط الأدبية بالشرق العربي."(٥)  
وهنا تهزني ذكرى غالية تعود إلى ما قبل ستين عامًا تقريبا، عندما نشرت مجلة (العربي) الكويتية قصيدةً للشاعر صالح جودت "احتفاءً بذكرى أبي القاسم الشابي"، اشتركنا في الإعجاب بها -والدي وأنا- وكنت في تلك السن الصغيرة واقعا تحت سحر صالح جودت، الذي يقول في مطلع قصيدته:
لم ينفرِ الوحيُ ولم يغرُبِ/ عن قمة الإلهام في يَعربِ
من زعم الشعرَ انتهى عهدُه؟/ كم جاء بعد المتنبي نبي
ثم يأتي، في مقطع لاحق من القصيدة، على ذكر مجلة (أبوللو)، التي يقول عنها في هامش القصيدة المنشورة في ديوانه (ألحان مصرية)، إنه -أي صالح جودت- كان يومئذ أصغر أعضاء مجلس إدارتها، فيقول:
هيهات ننسى لأبوللو يدًا/ ياما سقت من غيثها الصيِّبِ
مَرّت على مطلعِ أيامِنا/ ونحن كالحبات في الطحلبِ
فقربت منا بعيد المدى/ وأطلعت منا زهور الرُّبِي
وكان فينا وترٌ ساحرٌ/ يخطر في بُردِ الصبا الأقشبِ
من تونس الخضراءَ من روحِها/ من سمتِها الحُر الذكي الأبي
صلاتهُ للحسن صوفيةٌ/ في هيكل الحبِ كنجوى نبي(٦) 
لا ينكر الرحمنُ إحسانَها/ لو تُليتْ للناس في (يثربِ)
ما علموه الشعر لكنه/ لألأهُ من روحه الطيبِ
منغمَ اللفظ جديدَ الرؤى/ ينسابُ من عذبٍ إلى أعذبِ
ويذهب بعض الباحثين إلى أن قصيدة (صلوات في هيكل الحب) "قالها الشابي في امرأة بعينها، هي -كما يقول محمد الحليوي-: فتاة إنجليزية مصورة كانت قد أقامت مدة بتوزر لتصوير بعض مناظر المدينة وواحاتها على نحو ما يفعل الفنانون الأجانب في بلادنا، فرآها الشابي تغدو وتروح، وتقبل وتدبر، فاستولى جمالها وشبابها على مشاعره إلى درجة الذهول الصوفي فرفع إليها تلك الصلوات"(٧). 
بدأت هذا الحديث عن الشابي بذكر قصيدته الفريدة هذه كما وصفها صالح جودت، وديوانِهِ الوحيد (أغاني الحياة) الذي ما زالت في مخيلتي صورة باهتة عن تصميم غلافه. ولكن يبدو أن الطبعة التي رجعت إليها من الديوان والتي عثرت عليها في الإنترنت هي طبعة ثانية أصدرتها (الدار التونسية للنشر)، إذ تتصدر الديوان (كلمة) للناشر بدأها بهذه الكلمات: "يسر الدار التونسية للنشر أن تعيد طبع ديوان (أغاني الحياة) لشاعر العروبة الفذ أبي القاسم الشابي. لقد عمدنا في هذه الطبعة إلى زيادة إحدى عشرة قصيدة -قالها في صباه- لم ننشرها في الطبعة السابقة. وذلك إيمانا منا بوجوب جمع أكثر ما يمكن من تراثه".
وإلى جانب قصيدة (صلوات في هيكل الحب) وقصيدة (إرادة الحياة)، هناك قصائد شهيرة أخرى للشابي تحتفظ بها الذاكرة، منها قصيدة (النبي المجهول):
أيها الشعب ليتني كنت حطابا فأهوي على الجذوع بفأسي
وقصيدة (نشيد الجبار) أو (هكذا غنى بروميثيوس):
سأعيش رغم الداء والأعداء/ كالنسر فوق القمة الشماء
أرنو إلى الشمس المضيئة هازئا/ بالسحب والأمطار والأنواء
وقصيدة (الجنة الضائعة)، وهي قصيدة طويلة يخبرنا الديوان أنها من بين آخر ما كتب إذ إنها مؤرخة: 9 جانفي-يناير- 1933م. وقد اختيرت من هذه القصيدة أبيات أذكر أنها كانت مقررة علينا في إحدى السنوات الدراسية المبكرة:
كم من عهود عذبة/ في عدوة الوادي النضير
فضية الأسحار مذهبة الأصائل والبكور
كانت أرق من الزهور ومن أغاريد الطيور
وألذ من سحر الصبا/ في بسمة الطفل الغرير
وللشابي قصيدة جميلة مبكرة مؤرخة: 2 جوان-يونيو- 1925م، عنوانها (تونس الجميلة)، أختم بها هذا الحديث مهديا إياها -بما فيها من معاني الوطنية والأمل- إلى تونس الجميلة، مفجرة الربيع العربي، وإلى سوريا العروبة وثورتها العظيمة السائرة في طريق النصر بإذن الله، وإلى فلsطين وغzة المجاhدة الصابرة المحتسبة المنتصرة بإذن الله.. "ولا بد لليل أن ينجلي"، كما يردد دائما في نهاية تصريحاته الرئيس التونسي الأسبق المنصف المرزوقي: 
لست أبكي لعسف ليلٍ طويلٍ/ أو لربعٍ غدا العفاءُ مراحَه
إنما عَبرتي لخطبٍ ثقيلٍ/ قد عرانا ولم نجد من أزاحَه
كلما قام في البلاد خطيب/ موقظ شعبه يريد صلاحَه
ألبسوا روحه قميص اضطهادٍ/ فاتك شائك يرد جماحَه
أخمدوا صوته الإلهيَّ بالعسف أماتوا صداحه ونواحَه
وتوخوا طرائقَ العسف والإرهاق توا وما توخوا سماحَة
هكذا المخلصون في كل صوب/ رشقات الردى إليهم متاحَة
غير أنا تناوبتنا الرزايا/ واستباحت حمانا أي استباحَة
===
أنا يا تونسُ الجميلةُ في لج الهوى قد سبحت أي سباحَة
شِرعتي حبك العميق وإني/ قد تذوقت مُرّه وقراحَه
لست أنصاع للّواحي ولو مِتُّ وقامت على شبابي المَناحَة
لا أبالي وإن أريقت دمائي/ فدماءُ العشاق دومًا مباحَة
وبطولِ المدى تُريك الليالي/ صادقَ الحب والوَلا وسَجاحَه
إن ذا عصرُ ظلمةٍ غير أنِّي/ من وراء الظلام شمت صباحَه
ضيع الدهرُ مجدَ شعبي ولكن/ سترد الحياة يومًا وشاحَه

الهوامش:
(١) د. عبدالقادر القط، الاتجاه الوجداني في الشعر العربي المعاصر، دار النهضة العربية، بيروت، الطبعة الثانية، ١٩٨١، ص٣١٣.
(٢) نفسه، ص١١.
(٣) أبو القاسم الشابي، أغاني الحياة، الدار التونسية للنشر، ١٩٧٠، ص١٣.
(٤) د. عبدالقادر القط، مرجع سابق، ص١٤.
(٥) أبو القاسم الشابي، الديوان، مرجع سابق، ص١٤.
(٦) جاء في الهامش في ديوان جودت (ألحان مصرية) أن هذا البيت إشارة إلى قصيدته الفريدة (صلوات في هيكل الحب).
(٧) د. عمر فروخ، الشابي شاعر الحب والحياة، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الثالثة، ١٩٨٠، ص٢٨٢.