في السنوات الأخيرة من حياته، و قبل كل رأس سنة كنت أخترق صمته ومرضه وألمه الذي يقفل عليه باب قلبه واتصل به على تلفون منزله، وفي كل مرة لا أكون متأكداً أنه سيجيب على اتصالي ابداً، لكن بمجرد أن يرفع السماعة
يأتي صوته مُرحباً :
  -آلو...
أعرف صوته الرخيم العذب يخترقني،سمعته العديد من المرات يلقي به قصائده، عبر ردايوعدن ،أوقصائداً لغيره من الشعراء العرب والأجانب.  يقول لي بعتب وبعض التعب يعتريه :
 - يابن البحاح أيش تشتي مني؟"خللي حالي" انا تعبان ! ليس عندي ماأقوله !   أقول له:
 - فقط بضع كلمات بالسنةالجديدة أستاذ لطفي لقُرائك ومُحبيك عبرصحيفة "14 اكتوبر"..
 أصعب شيء أن تطلب من رجل مريض  أن يسعد الآخرين بكلماته وهو يتألم ويغلق بابه ونوافذه عليه خاصة بعد النكسات التي تعرض لها في أواخرحياته،لكني كنت أنجح في كل مرة أن يوافق تحت إلحاحي وحبه للناس أن يمليني بعض كلماته العذبة الرشيقة التي يختارها بعنايةفائقة.أكتبهابعده حرفاًحرفاً،كلمة كلمة،وأنا في مُنتهى الإستمتاع ولا أريده أن ينتهي لجمالها وروعةإلقائه.أقرأها له فيعطيني موافقته، وكنت اكتفي منه بتلك الكلمات القليلة حِرصاً مني على صحته،وقليله كثير،فنزين بها مع صورته العددالصادر في أول يناير ضمن التهانيء العديدة لكتاب وشعراءوشخصيات
 إجتماعية وفنانين كنانحرص أن تكون أول مايصافح عيون قُراء الجريدة في مطلع العام الجديد...بعض الكلمات التي تحمل الأمل بالغد ! 
  حينها كانت أعراض مرض القلب قد بدأت تعتري لطفي،وبدا ذلك جلياً في آلام صدره وفي ضيق التنفس، وفي  صوته، ثم ازدادت آلام المرض على الشاعرالرقيق وسافر لتلقي العلاج في القاهرة،في مستشفى القوات المسلحة بالمعادي،حيث طالته المنية ففارق الحياة في السادس عشر من ديسمبر سنة1971ونقل جُثمانه إلى عدن وكان إعلان وفاته يوم حُزن عميق في عدن.
لبست المدينة التي لطالما غناها وغنى لها ثوب الحزن والحِداد وخرجت الجموع لوداعه ومشت خلف جنازته في موكب تشييع مَهيب إلى مثواه قبل الأخيرفي مقبرةالقطيع في كريترغيربعيد من منزله حيث ولد وعاش أجمل سنوات عُمره. وكنت هناك أسيرفي موكب جنازته،وصوته يرثي جمال يرن في فؤادي"مات جمال"وكان يرثي موت أُمةبموت زعيم! هل حقاً مات ؟ وكنت حضرته وهو يُلقيها أول مرة في مهرجان أمام جماهيرمكلومة في ساحة قصر الشكر في الخليج الأمامي في كريتر بعد موت جمال عبدالناصرفي أواخرسبتمبر1970،وكانت تلك المرة الأولى والأخيرة التي أرى فيها الشاعر وجهاًلوجه.كان التعب والحزن آخذين منه بوضوح وكأن زلزال موت الزعيم المفاجيء فاض على القلب المريض والجسد المُنهك مزيداً من الألم والغم .
 لم يتأخر موت لطفي كثيراً إذ مات في العام التالي لموت الزعيم بفارق سنة وثلاثة أشهر فقط !!
جاء يناير التالي،وحلت السنة الميلادية الجديدةوخلاعدد الجريدة من صورة الشاعر وتهنئته.مات لطفي جعفر أمان، الشاعر الذي ملأ سماءنا بشعره ودنيانا بأغانيه لكنه لم يمت في قلوب محبيه.
سيظل الناس يقرأون أشعاره،يسمعون أغانيه، ويكتب عنه المقالات والدراسات الباحثون والكتاب. مازال معبداً للحب  يبنيه العُشاق في ساحل أبين، جمرة تشعل الحريق في صدورالمحبين، كان البحر مهربهم الجميل ولغتهم المشتركة ، سيظل صرخة المجد التليد، شاهقاً في كبرياءجبل شمسان، نِيلاًيروي كل قلب عربي..مزهراًحزيناً يرعش الحنين إلى ملاعب الصِبا وحبنا الدفين ..
أستعيد اللحظات كأنها الآن رغم أن لطفي غاب عن الحياة قبل 53سنة كأنها بالأمس.اندفن الجسد تحت كومة التراب في "المجنة" لكن شِعره وأغانيه وعطره يملأ المكان ولايمكن أن يحتويه قبر ...
                        2
  "في يناير  1928 اجتاح وباء الطاعون 
عدن،بدأ الوباء في منطقة مُنعزلةفي حي فقير في التواهي يسكنه حمالو الفحم الذين يشتغلون في الشركات التي تزود البواخر التي ترسوفي ميناء عدن بالفحم  وبالرغم من الإجراءات التي اتخذتها الإدارة الصحية لمستعمرة عدن إلى أن الوفيات ارتفعت من 42% إلى 97% ، وسرعان ماانتقل الوباء إلى المعلا وكريتر والشيخ عثمان وضواحيهاحاصداً أرواح كثير من الناس خلال ستة شهور، كانت تلك اكبر فاجعة وبائية أصيبت بها عدن في القرن العشرين الماضي، ألغى الوباء الرعب في الناس وترك ثُلثُ السكان المدينة هرباً بحياتهم.ولنا أن نتصورحجم التدميرالنفسي والإجتماعي والإقتصادي الذي زرعه الوباء في حياة الناس حينها ( الدكتوروليدناصر عبدالله:التاريخ الوبائي لعدن..وباء الطاعون - جريدةالأيام، الأربعاء27سبتمبر2006م ).  
                       3
   - ألطف بنا يالطيف..
 في مثل الظروف هذه،يلجأ الناس عادة إلى السماء يطلبون من رب العالمين أن يلطف بهم،وينجيهم من الطاعون الذي أودى بحياة كثير من الأرواح، فأسمى جعفر أمان طفله الذي فتح عينيه في الثاني عشرمايو 1928 في ذلك العام (لطفي) فنجامن الوباء بإذن الله ولطفه. وفي يونيو أعلنت الإدارة الطبية إنتهاء الوباءوتنفس الناس الصعداء وبدأ الذين غادرواالمدينةيعودون إليهابالتدريج،كما أخذت تستعيد حياتها الاقتصادية والاجتماعية.
                       □
كل شيء في البيت الذي ولد وتربى فيه كان يقوده إلى الشعر والفن ، في أسرة متوسطة الحال تهتم بالشعر والرسم والموسيقى، فشقيقه نجيب كان يكتب الشعر،وشقيقاه شفيق وفتحي كانا
رسامين،ومِن أشقائه مَن يعزف العود، و من يغني كما جاء على لسان  صديقه ومعاصره الشاعر عبدالله فاضل فارع.
ولأن نظرة الإنسان للعالم تتكون أثناء الطفولة والمراهقةفان لطفي كمايبدوأخذ من كل هؤلاء شيئاًفكان شاعراً مرموقاً،ورساماًجيداًزين بعض دواوينه برسوماته وكان يعرف على الأقل مباديء العزف والتلحين لكنه تفوق عليهم جميعاً كماأورد الشاعر الدكتور شهاب غانم أن لطفي هو من لحن أغنية"ماكانش ظني " التي غنتها الفنانة فتحيةالصغيرة كدليل على إجادته للتلحين،بل أن لطفي أضاف إلى إجادته لهذه الفنون التمثيل.كماعمل مذيعاًفي إذاعةعدن في بداية تأسيسها في عام 1957وقدم من خلالها برامج أدبيةوتربوية، وساهم في تحرير مجلة "المعلم"، ونشر عدداً من المقالات في عدد من الصحف المحلية الصادرة في عدن وعمل مدرساً في المدارس الإبتدائية والمتوسطة والثانوية في عدن، بعد عودته من دراسته الجامعية في السودان،ومحاضراً في مركز تدريب المعلمين في حقات بعدعودته من دراسته الجامعية عام1962 في لندن.
، وترقى إلى مفتش مدارس ثم إلى ضابط معارف وتولى مسؤوليةالمطبوعات والنشر في وزارة المعارف ثم صار مديراً للتربية والتعليم وأخيراًوكيل وزارة وهو آخر منصب شغله حتى وافاه الأجل. لكن تعدد مواهب لطفي وانشغاله بالوظيفة العامة لم يأخذه من إنصرافه إلى الشعر.. مغامرته الأجمل والأروع فسيظل عطاءه الأفضل الباقي الذي لم ولن يفارقه وكان بالنسبةله الهواء الذي يتنفسه ونبض حياته وعطره الذي يعبق بحب الأرض الوطن المرأة والحياة بذوق وحس مرهف وعبارة رشيقة وساهم به في تحرير الشعر اليمني من قوالبه الجامدة ونفخ فيه حيوية وحداثة. يقول د. عبد العزيز المقالح عن لطفي في كتابه«الأبعاد الموضوعية الفنية لحركة الشعر المعاصر في اليمن المنشور عام 1978م: «كان أكثر زملائه الشعراء -شمالاً وجنوباً- تمثيلاً لحركة الشعر المعاصر في مرحلته الأربعينية». ويقول عن قصيدة لطفي «خطيئة غريب» المنشورة في ديوانه الأول بأنه فيها: «يخرج كليةََ عن نظام القافية ويكتب شعراً موزوناً مرسلاً هو بداية القصيدة الجديدة في اليمن».                    
                         4
  بدأ نشرأشعاره وهو لايزال طالباً في صحيفة( فتاة الجزيرة) التي أصدرها في عدن المحامي محمد علي لقمان رائد التنوير سنة 1940م،ويعد لطفي أمان أول من أصدر ديواناً شعرياً في اليمن  ،حين أصدر ديوانه " بقايا نغم " عام 1948م عن دار فتاة الجزيرة، وقدم له الشاعر الكبير الدكتور محمد عبده غانم، واتبعه ب " الدرب الأخضر " و" كانت لنا أيام "و" ليل إلى متى"و" إليكم يااخوتي ".كما صدر له ديوانا: "موكب الثورة" و "إلى الفدائيين في فلسطين". وكلها بالفصحى .والديوان الوحيد الذي صدرله باللهجة العدنية التي كتب بهاأغانيه حمل عنوان"الليالي"عام1960ضم أكثرمن"عشرين" أغنيةلحنها وغناها له مجموعة من أشهرالملحنين والمطربين في عدن تنتمي كلها إلى فترةخمسينيات القرن العشرين الماضي،ولم يتمكن من إصدار ديوان آخر بأغانيه بعد هذا التاريخ في حياته، ويقال انه أعد للنشرمجموعة أغانيه الأخرى بعنوان"أعيش لك" وهي الأغنية التي غناها له الفنان ابوبكر سالم بلفقيه. ويقال أيضاً انه ألف أغنية كان من المقرر أن تغنيها كوكب الشرق ام كلثوم ضمن مشروعها غناء أغنيات لشعراء معاصرين من الوطن العربي ،حيث غنت للشاعر السوداني الهادي آدم (أغداً ألقاك)، والشاعر السعودي الأمير عبدالله الفيصل( من أجل عينيك عشقت الهوى) عام1971 الذي سبق وغنت له ( ثورة الشك )عام 1958 والشاعر اللبناني جورج جرادق( هذه ليلتي )عام1971م
وهو العام الذي توفي فيه لطفي أمان، وإذا عرفنا ان شاعرنا كان مريضاً خلال العامين السابقين لوفاته فمن المحتمل أن المرض لم يسنح له لقاء أم كلثوم ليبحث معها أن تغني من اشعاره ، لكن الأغنية نشرت في الصحافة المحلية وفي مجلة ( الحكمة ) وذكر أن لطفي كتبها خصيصاً لتغنيهاالسيدة! وذكرلي صديقي الشاعر البروفيسور نزار غانم :" رأيت هذا النص منشوراً بمجلة الحكمة و كنت سألت خالي الشاعر علي لقمان فقال لي ان لطفي كان يخبره ان أم كلثوم على وشك أن تغني له و قال لي إنها كانت أمنية لا أكثر عند لطفي". وظلت أمنية لأن لطفي توفي قبل أن يراها تتحقق!!
أما أعماله الشعرية الكاملة فقد صدرت عام1997م بعد وفاته بست وعشرين سنة.ولم يهتم الشاعر بجمع كتاباته النقديةوالتربويةالتي نشرها في الصحف المحليةوفي مجلة "المعلم" كما اهتم بشعره،كمالم يعتن به ورثته أوالمؤسسات الثقافية والأدبية المعنية. فلم تعرف الأجيال الجديدة التي لم تعاصره، لطفي الناقد،ولطفي الكاتب كما عرفت لطفي الشاعر والشاعر الغنائي، كما أن الذين درسوا سيرته وشعره لم يلتفتوا إلى هذا الجانب من حياته الذي ضمنه العديد من أرائه وأفكاره في الشؤون الأدبيةوخاصة الشعر فلم يحظ بنفس القدر الذي حظي به شعره من الإهتمام، مع ان نثره لايقل روعة عنه، إذ يتحول تحت يراعه المرهف إلى عمل أدبي تقرأه بمتعةوشغف وتتذوقه كقطعة فنية..وهي أناقة في اللفظ والمعنى كان يحرص عليها لطفي في نثره كما في شعره وفي حياته ولكن للأسف لم يُجمع حتى الآن .يقول د. أحمد الهمداني في كتابه«دفاعاً عن لطفي أمان»المنشورعام2004م
«لطفي أمان هوالشاعرالفنان في صياغته الشعرية،الفنان في ترجمته وهو يقدم إلى القارئ اليمني بعض المقطوعات 
الشعرية الأجنبية، الفنان وهو يقدم بعضاً من تجارب المبدعين في الشرق والغرب، وهو الفنان عندما يقدم إلى عيني المشاهد لوحاته ورسومه التي تحمل عبق الشاعرية وعطر الفن. وهو الفنان في تقديمه إلى أذن السامع ألحان مجموعة من قصائده التي غنّاها كبار المطربين اليمنيين. وهو الفنان في صوته الرخيم العذب الذي يقدّم به قصائده في المنتديات وفي الأماسي الشعرية». 
                        5   
ينتمي لطفي أمان إلى تيار الرومانسية،فهو باتفاق النقاد أحد روادها المشاهير في اليمن والوطن العربي الذين كان لإشعارهم سحرها ومواضيعها تثيرالخيال سواءا في طبيعتها أوفي شكلها، لكن هذا لايعني أن شاعرنا الكبير كان يغني الوهم الذي ليس فيه شيء صحيح،بل انه كان يلجأ في مخيلته ليجلو أبعادالحقيقة
والواقع ولأن الرومانسية كانت في الزمن الذي ظهر فيه لطفي في الشعر وفي مختلف الأنواع الأدبية فإن لطفي الإنسان الرقيق بطبعه المرهف بتكوينه قد أراد من خلال تفتق موهبته الشعرية المبكرة أن يحيد عن سهام الواقع القاسي المؤلم وأن يكون في ذات الوقت منتمياً إلى عالم الواقع والبشر لذلك كان لابد أن تصيبه بعض السهام الحقيقية لا المتخيلة.
 تأثر لطفي بشعر الشعراء الرومانسيين من أمثال السوداني التيجاني الطيب بشير، والمصري محمود حسن إسماعيل، والتونسي ابي القاسم الشابي،واللبناني إلياس ابو شبكة. ومن غريب مايذكرأنهم
جميعاً ماتوا في سن الشباب لكنهم كانوا قد ولدوا مثل شاعرنا الراحل لطفي أمان مكتملين. بل أن هذا الموت المبكرسيكون من نصيبه أيضاً إذ مات وهو في الثالثة والأربعين فقط من عمره كما سلف . وبحسب الناقد أحمد أديب فإن أهم مايميز لطفي انه يكتب كفنان وصاحب رؤية له مواقفه ومقدرته الفلسفية ولم يكن "الشكل "في شعره عنده الغايةلذلك لانجده مثقلاً بلغو الوصف وربما لهذا لانجد القطيعة حاسمة بين رومانسيته وواقعيته دون أن يرقى إلى التمرد الخطير، لكنه احتفظ لنا بعظمة إبداعه الباقي .
                         6
 من الطبيعي أن كل شاعر أومبدع يمر بمراحل تطور وتغير على صعيد مايبدع وفي هذا تكمن الناحية الأساسيةللتجدد والتحول في شعره من دهشة المخيلة والرومانسية إلى الميل إلى الواقع  والالتفات إلى المجتمع والصدى الإجتماعي والنضال التحرري لشعبه والقومي لأمته العربية، والإنفعال بما يفرزه الصراع بين الإستعمار وقوى التحرر الوطني.وهذه المرحلة الشعرية هي التي استبدل فيها لطفي كلماته وأشعاره الرهيفة بلغة أخرى خالية من من العواطف الرومانسية لكي يظهر على الواقع على حقيقته ويحرض على تغييره. هنا نجده يتخلى عن ردائه اللغوي المتأنق ويحيك لغة نارية سيغنيهاالشعب في نضاله ضد الاحتلال الأجنبي لبلاده " 
                        7
 الحقيقة أن هذا التحول في شعر لطفي أمان حدث بصورة تدريجية ، فالشاعر   الذي عاصر نكبة فلسطين عام 1948
العام الذي نشر فيه أول ديوان له (بقايا نغم) ،وارهاصات ثورة 23 يوليو 1952 في مصر والمد التحرري العربي والعدوان الثلاثي على مصر ، كان لابد له أن يتأثر وينفعل بكل ذلك ، بالإضافة إلى مايعتمل داخل وطنه نفسه من استعمارطال أمده، ومن تململ و مقاومة سلمية احياناً وعسكرية أحياناً،ولاشك أن هذه القناعات
تشكلت تدريجياوليس عن طريق الصدمة أو الصعقة كما حدث لنزار قباني بعد نكسة يونيو1967التي منيت بها الأمة العربية علي يد إسرائيل كما اعترف هو نفسه(ياوطني حولتني في لحظة من شاعر يكتب قصائد الحب من سنين إلى شاعر يكتب بالسكين - هوامش على دفتر النكسة ).
 الأمر لم يكن كذلك بالنسبة للطفي أمان،  لقد كان تحوله أبكر من ذلك بكثير حين كتب قصيدته ( المنتقم ) سنة 1955  
التي غناها الفنان محمد مرشد ناجي واشتهرت بإسم المطلع الأول للقصيدة ( أخي كبلوني ) التي كتبها لطفي من  وحي احداث المحاكمة الشهيرة التي تعرض لها الكاتب المناضل الأستاذ عبدالله باذيب الذي اتهمته سلطات الاحتلال البريطاني بإثارة الكراهية ضد الحكومة،لنشره مقال( المسيح الذي يتكلم الإنجليزية ) في صحيفة (النهضة) الأسبوعية. 
                       □
 كان المقال من الخطورة بحيث اتخذت السلطات البريطانية في عدن قرارا صارماً، وربما خطيراً أيضاً، باعتقال عبدالله باذيب وتقديمه للمحاكمة. كان القرار غير مسبوق ، فهذه هي المرة الأولى التي تقدم فيها السلطات البريطانية على محاكمة كاتب على مقال كتبه ، وكان هذا أكبر دليل على قوة الكلمة وشجاعة الكاتب ، وهشاشة الاستعمار.
 في سبتمبر  1955قدمت السلطات المُناضل باذيب الذي كان حينها شاباً لم يتجاوز الرابعة والعشرين من عمره فقط للمحاكمة في محكمة التواهي على يد الحاكم الانجليزي "نوكس مور". 
وحدث مالم تتوقعه السلطات ، او قللت من شأنه، تدفقت الجماهير أمام ساحة المحكمة ليس يوماً واحداً، بل مطلع كل صباح طوال أيام المحاكمة تضامناًمع ابنها بصورةلم يحدث لها مثيل، وأمام هذا الضغط الجماهيري اضطر الحاكم الإنجليزي الى إصدار حكم مُخفف بتعهد الكاتب بحسن السلوك خمس سنوات وغرامة مالية كضمان.
                         □
كان الرأي العام في عدن يتابع محاكمة عبدالله باذيب،وقد أثار هذا الحدث الشاعر لطفي أمان من الأعماق وانفعل به فكتب قصيدته ( المنتقم ) ونشرها في واحدة من الصحف الصادرة في عدن .
                       □
 في ذلك الصباح وكعادته كل يوم مر  الفنان محمد مرشد ناجي على المكتبة   التي تعود ان يشتري منها الصحف في الشيخ عثمان ،ومن بين الصحف التي اعتاد شراءها صحيفة (النور) لصديقه وصاحبها الأستاذ محمد سالم باسندوة ، و عندما تصفحها رأى قصيدة لطفي منشورة فيها فلحنها على الفور وقدمها في حفلته الموسمية وحفلات متتابعة في الستينيات من القرن العشرين الماضي . 
                       □
لم تكن السلطات الاستعمارية لتجازف بتقديم الشاعر لطفي للمحاكمة على قصيدته، فقد تعلمت الدرس من موقف الجماهير من محاكمة عبدالله باذيب ، والالكانت واجهت موقفاً أصعب،ولا بمحاكمة الفنان المرشدي الذي نقل القصيدة إلى النطاق الجماهيري الواسع في الحفلات الغنائية الجماهيرية حيث تلاقي الرواج الكبير والتفاعل . اكتفت بتوجيه إنذار للأستاذ لطفي من إدارة المعارف البريطانية في المستعمرة الذي كان موظفا لديها وفيه تلفت نظره لمخالفته القانون الوظيفي الذي يحرم على الموظف الحكومي التدخل في السياسة.اما الفنان المرشد الذي لم يكن موظفاً حكومياً فلم يسلم وتسلم حفلاته الغنائية من التضييق .
 ومن ذا يستطيع أن يسكت شاعراً عن كتابة الشعر وقول الحقيقة والمساهمة في النضال التحرري لشعبه والنضال القومي لأمته. واصل لطفي أمان كتابة الشعر والأغنية الوطنية. وصرخةالمجد التليد، وأخي كبرالفجر، ومتى كُناعبيد؟، ويابلادي، وغيرها. وقصائده عن فلسطين مثال على هذا التحول .
                        8
  أمانقطة التحول الأُخرى والمهمة في شعره فتكمن في اللحظة التي أدرك فيها التأثير العميق للأغنية واللهجة اوالعامية في حياة الناس،فاتخذ منهما نقطة إنطلاق للوصول إليهم،وإذا لم يستطع أن يتخلص في أغانيه العاطفيةمن موضوعات الحب والغزل والصد والهجر  الأثيرة لدى كل الشعراء الغنائيين لكن كان للهجة الغنائية وهجها ولمفرداتها نبضها وحيوتها وموسيقاها فادخل دماءاً جديدة في الأغنية المحلية ونقلها نقلة موضوعية لالبس فيها أو غبار وحررها من التقليدية، فنالت أغانية الشهرة والإنتشار على يد أفضل ملحني ومطربي عصره : أحمد بن أحمد قاسم،ومحمد مرشدناجي
،وسالم أحمد بامدهف،وابوبكر سالم بلفقيه،وياسين فارع،ومحمد سعدعبدالله،وعبد الرحمن باجنيد،وابوبكرفارع وفتحية الصغيرة وغيرهم. فغنى له الفنان ابوبكر سالم بلفقيه في مرحلته العدنية: اعيش لك ، وصفوا لي الحب ، زمان كانت لناأيام، سمعت الشوق،خليلي حالي،خطوة خطوة.وغنى له  محمد مرشد ناجي:أخي كبلوني،ويابلادي،وهات يدك على يدي ، ومع السلامة، وعرفت الحب، ياكذا ولا كذا ،ظبي من شمسان،ومش مصدق ،التي غناها أيضاً الفنان أحمد قاسم بلحن مختلف،وغنى له الكثير من أغانيه مثل: صدفة،وربي ،ياعيباه،مش عيب عليك ،أسمروعيونه،
أهكذا ،ابتدينا، ،بصراحة، انت ولا احد سواك، في جفونك، الحسن كله،أحبها، المزهر الحزين ،ومتى كنا عبيد ؟ وغنى له محمد سعد عبدالله " ليش هذاالهجر".وعبدالرحمن باجنيد "طير من وادي تبن". ومحمد صالح عزاني "قل لي ليش التعب".ومحمد صالح همشري :"همس الجفون"، "وريتك تجي. وياسين فارع: "يحلف وهوكذاب". وسالم أحمد بامدهف: ألومك واعاتبك، ونجوى الليل ،وماشي كماك .وابوبكر فارع: "متى نلتقي ".
 ولاشك ان لطفي أمان وهو يتجه نحو الأغنية واللهجة في شعره ، كان يتبع طريق شعراء سبقوه إلى ذلك وحققوا النجاح والجماهيرية خاصة الشاعر الكبير الدكتور محمد عبده غانم الذي فتح  الطريق أمام من جاؤا بعده منذ نهاية اربعينيات القرن الماضي فيما عرف بعده والفنان خليل محمد خليل وسالم أحمد بامدهف والندوة العدنية ورابطة الأغنية العدنية ب "الأغنية العدنية".وسمعت شخصياً من الشاعر الغنائي علي أمان أن عمه لطفي طلب رأيه ذات يوم إذا ما كان من المناسب لشاعر مثله أن يتوجه نحو تأليف الأغاني فشجعه على ذلك فكان دخوله هذا المجال فعلاً كسباً للأغنية العدنية واغنى فن الغناء بفيض من أروع الأغاني التي ستظل جزءً من سجل الغناء اليمني الخالد. وأعتقد أن قراره ذاك كان من أجمل مكاسب الأغنية العدنية التي كتب لها اكثر الكلمات أناقة ومنحها فيضاً من مشاعره وأحاسيسه الرقيقة .
 وفي رأيي فإن الشعر الغنائي للطفي أمان يحتاج إلى دراسة منهجية، لأن المفردات والكلمات التي يستخدمها الشاعر تتحول من دلالاتها المعجمية في اللهجة العدنية لتكتسب دلالات جديدة لصيقة بشخصه هو، وفي مثل هذه الدراسة فقط نستطيع الوقوف على إبداعه الشعري الغنائي وأساليبه الجديدة في الأغنية، ومدى إشتغاله على اللهجة والمفردة وعلى خصوصية تجربته الإبداعيةالبنائية الهندسيةالمرتبطة ارتباطاً وثيقاً بزمن كل أغنية وطبيعة موضوعها وصورها وإيقاعاتها الداخلية وما أضافه إلى الشعر الغنائي اليمني ، وتحديداً إلى الأغنية الحديثة" العدنية" والتي لم تصل إليها قبله.وباختصار يمكن القول إن لطفي وجد في كتابة الأغنية باللهجة التعبير بواسطة الكلمة المغناة قوة تعادل إن لم تكن تتفوق على قوة الكلمة المكتوبة بالفصحى وسحرها لذلك كان يحرص على كتابة أغانيه بالعامية، وقصائده بالفصحى فشد إليه أنظار الخاصة واذان العامة جنباً إلى جنب .ويرى الكاتب والناقد الدكتور شهاب القاضي رحمه الله " أن تلك الأغاني تميزت باللغة السهلة بسيطةالتراكيب ،عميقة المعنى، الثريةبالصور الفنية الموحية. لم تكن الأغنية عند لطفي أمان مبتذلة المعاني ولكنه يسرد علينا احلامه وهياماته واشواقه واشجانه واحزانه بلغة راقية عالية جعلت منها الألحان الموسيقية أغان خالدة". ( د. شهاب القاضي : لطفي أمان شاعرا غنائيا- عدن الغد1ديسمبر2019م).
                     9
 بين تاريخ وفاته في16ديسمبر1971
في القاهرة، وميلاده في عدن في12
مايو1928م عاش لطفي جعفر أمان43 سنةوبضع أشهر فقط،لكنه خلال هذاالعمر القصير الذي عاشه كان ملء السمع  والبصر واحتل مساحة شاسعة في المشهدالشعري والثقافي العدني واليمني، وفي الذاكرة الشعرية والغنائية المعاصرة، إذ صارت أعماله برسم القراءة والتداول حتى بعد وفاته.وفي هذا الحضور البهي تتبدى صحة مايذهب إليه كثيرون بأن حياة الشاعر لاتبتديء بالمهد وتنتهي باللحد بل تمتد من الأزل إلى الأبد. ربما غادرت الروح الجسد الذي انهكه مرض القلب، لكنه خلال هذا العمرالقصير حقق شاعريته وشهرته وسجل اسمه في سجل الخالدين الذهبي كشاعر كبير في مملكة الشعر،نشر قصائده ودواوينه وأنغام أغانيه فسحربها الألباب، وتداولها الرجال والنساء،وهام بها الفتيان والصبايا،وتغنى بها كبار المطربين والمطربات في عدن فكتب لها التاريخ أن تعيش ويعيش شاعرها لطفي أمان لذلك فإن عمره الحقيقي ليس العمر البيولوجي الذي  عاشه بل ببقاء الروح الكلي الخالد.أوكما يقول الشاعر البدوي: " نحن الشعراء لانموت ولكن نتغير، نحن قوة والقوة لاتموت ".