ارتضى الكاتب والصحفي والقاص (محمد عمر بحاح) أن يُسمّي سرديته التي نشرها في دار (أروقة) بالقاهرة (2024) ب(أشيائي). ليوصل رسالة للقارئ تقول بأن ما يسرده أشياء تخصه، فمضى في تصوير حياته في حارته التي تعرف ب(القويرة) وهي بعيدة في الجغرافيا عن القويرة في دوعن التي تنسب للمحاضير، لكنها قريبة منها في المعنى. وقويرة بحاح محسوبة على الديس الشرقية التي من أسمائها (وادي عمر) نسبة الى عمر المحضار، الذي اختار ميناء (شرمة) القديم مكانا لخلوته لمثاليته في الهدوء إذ يسمع المتأمل فيه أصوات الطبيعة بطريقة نظيفة بعيدا عن ضجيج الحواضر، فصوت الصمت يُسمع تحت سمائها .إن ضمير المتكلم الملتحم ب(أشيائي) شكل خيمة كبيرة استظلت تحتها كل الموضوعات التي لها صلة قرابة وجدانية ب(السارد) من مشاهد ومناظر من المكان الذي كان يمرح ويسرح فيه بصيقه وعتومه وينابيعه
(ومقالده) التي يغتسل فيها داخل مساجده، وغابات نخيله التي احتضنته، وعلاقته الدافئة بهذا المكان لايقل عنها دفئا علاقته بعائلته الصغيرة والكبيرة بكل تفريعاتها وتفصيلاتها من الدم والرضاعة، والمنتسبين اليه ليس بالدم بل بالصداقة أو من سمتهم السردية (رفقة العمر). وأخيرا النسب غير النمطي الخارج عن مملكة البشر والداخل في مملكة الحيوان مع القط (ليانا) الذي رفعت السردية من شأنه وعدته (ملاكا في صورة قط) ودفعت بقرابته إلى درجة البنوة بالمحبة وبلسانها (وداعا ابني الذي لم أنجبه) والسردية قدمت نموذجا في غاية المحبة والاحترام بين السارد وابنته عبير (ثريا قلبه) وبين ليانا لدرجة أن القارئ لن يتشكك إطلاقا في أن المعايير التي طبقها السارد مع ابنته في التعامل مع (ليانا) تفوقت على معايير(بيتا) لحقوق الحيوان. ثم يجد القارئ داخل المتن ضخا يعزز ضمير(الأنا) مثل عمي (سالمين)(عماتي )(بنتي) (جدتي) (حبابتي)...إلخ. وكثافة ضمير الأنا في السردية لم يمنع من انفتاحها على العام فهي ليست مغلقة على نفسها مثلما تنبه إلى ذلك الصديق (ناصر بحاح) في صفحات تقديمه للسردية بطريقة حميمية. وسيكتفي المقال بما تناوله عن العنوان وسينتقل إلى شخصية الرجل الشجاع التي امتهن مهنة الشحاري في مدينة عدن.
#الشحاري الرجل الشجاع النبيل:
من جمالية هذه السردية أنها قدمت صورة غير نمطية عن مهنة صاحب البقالة أو ما يطلق عليه(الشحاري) باللهجة العدنية ، وكان أغلب الذين يعملون بهذه المهنة في عدن قادمين من حضرموت وبالذات من دوعن والديس الشرقية وبتعبير السردية (ديس شرقاويين) ولم يقلل من قيمة هذه الصورة كونها رسمت بيد السارد عن والده المسرود الذي امتهن مهنة (الشحاري) ولم يطّلقها الا عنوةً بعد قرارت السلطة الثورية في ما كان يسمى بجمهورية اليمن الجنوبية الشعبية في عام (1969) التي هيمنت على التجارة الداخلية والخارجية وأصبحت هي الشحاري الكبير بتعبير السردية. فتضايق الشحاري عمر من هذه القرارات المتهورة وأبدى امتعاضاً منها ورأى أن من تحمس لها وفرضها لا يعرف في البيع والشراء ولا يراعي أذواق الناس. إن الشحاري بمنظور السردية ليس بخيلاً يحرص عل تجميع المال، ولا إنسانا منعزلاً لا يبارح دكانه ولا تهمه أحوال أهل الحي، بل هو على النقيض من هذه الصورة الخشنة رحيم ولا يثقل على زبائنه بالدفع المباشر ويقبل (الدَين) ولا يقرف من كلمة (بعدين) بل بعض الذين يستدينون منه لا يوفون بديونهم ،ولا يتردد الشحاري في أن يتصدق من ماله في كل جمعة على الفقراء الذين يسكنون العشش المهددة على الدوام بالحريق ، وكثيراً ما شارك في إطفاء هذه الحرائق ولا يقف متفرجاً من بعيد ، وتعاونه مع الآخرين في المواقف الخطيرة والحرجة شهد بها صديقه الذي كان مريضاً بمرض (السل) الذي أفزع من حوله وهرب القريب والصديق، وبقي الشحاري(عمر) ملازماً له يعاشره ويأكل من الصحن نفسه الذي يأكل منه ولم يفارقه إلا بعد أن شفاه الله من مرضه، وهذا الوفاء والإخلاص لصديقه دفعه إلى أن يرفع من شأنه ويصفه بحسب السردية( أشجع رجل في العالم) لكن هذه الشجاعة لا علاقة لها بأبطال كارليل العظماء الذين غيروا التاريخ البشري، ولا بالأبطال العسكريين الذين قتلوا وسفكوا الدماء دون أن يبالون إلا بالنصر من أمثال نابليون وأشباهه ولا بالأبطال في الحكايات الشعبية مثل عنترة بن شداد وأبي زيد الهلالي وغيرهم من الذين مجدتهم الذاكرة الشعبية وتسلى السارد نفسه بمعاركهم مع جده وعمه وأصدقائه قبل أن يعرف الناس الأفلام الأمريكية والهندية، مع الفارق الشديد في التقنية والمرامي، فالحكايات الشعبية تتفوق عليها بفضيلتي المجانية والبراءة . إن لبطولة الشحاري مذاقا خاصا ودلالة انسانية تخلّد في ذاكرة الناس البسطاء ولا يُشيّد لها تماثيل ، ولا يترنم بها الشعراء ويمجدونها بل هي بطولة بسيطة تتجلى في وقت الحاجة وتذهب بوصفها ذكرى طيبة تلتصق بقلوب من يقدرها ،فالشحاري عمر قادر على اصطياد الأفاعي بكل سهولة حينما يتعرض الناس لخطرها فالوقت الذي يهرب منها الجميع، وقادر ايضا على مواجهة عواصف البحر عندما يكون راكباً على ظهر سفينة شراعية في البحر، فهو يعمل مع من يعملون لتذليل الخطورة ولايركن في زاوية مسورة بالخوف ينتظر الموت مثلما يفعل الكثير وعندما ترفع الخطورة يعود بهدوء إلى حالته الأولى وكأن شيئاً لم يكن. ومن العادات التي تحسب على النظافة التي يمارسها الشحاري في ذلك الزمان عادة تبخير الدكان بالبخور حتى يكون للروائح الزكية حق السيادة في الحضور لتحسين مزاج الزبائن، فعدن ليس صباياها من يتبخرن ويتبخترن فقط بل حتى دكاكين الشحاريين، والمار في شوارعها يشم رائحة البخور العبقة. أما في الصيف وبلغة السردية ( صيف الصيف يقوم الشحاري برش الأرضية التي أمام الدكان للتخفيف من حرارة الصيف فالأرضية في أيام الصيف(تلهب لهوب)من حرارة الشمس التي تكوي الوجوه بلا رحمة .واكتملت صورة الشحاري النبيلة حينما بنى السارد تمثالا جميلاً من حجارة الكلمات لحافة القاضي وعلاقتها بابن عمته سعيد فهذه العلاقة في غاية الود فهي ليست علاقة بين بائع ومشتر بل علاقه مطرزة بالمحبة والرحمة والود وتتصاعد هذه المحبة في شهر رمضان فقبيل المغرب تنهال عليه الأطباق والمعاشر من بيوت أهل الحي الجميل، فأُم خديجة تصيح على بنتها يا خديجه (ودي مطيبة العتر إلى عمك سعيد ) وأم فتحية تنادي على بنتها(يا فتحية ودي الشفوت عند عمك سعيد) ولا تخلو هذه الأطباق من المقليات مثل الباقية والسامبوسة وأخواتها من الدقيق . والشحاري يعرف أسماء الأسر واولادها وبناتها فهذا ابن النعمي وذاك ابن المنيباري والقصير ابن الجيزاني ، والبيضاء بنت مكاوي ، والسمراء بنت بحصو، والطويلة بنت الجبلي وهذه أميرة بنت الشيباني ومن كان معها زهرة بنت البار وكلهم يكبرون أمام أعينه. وينسب السارد بحاح فكرة التوصيل إلى البيوت أو الديلفري إلى الشحاري، ومهنته مهنة نبيلة تقدم خدمات ضرورية للناس لايدركون أهميتها إلا عندما يغيب ، وعلى فضائلها إلا أنها نكدة وشاقة لا راحة فيها ولا استراحه و السارد نفسه لم يقتنع أن يربط مصيره بها لهذه الأسباب، فهو قد جربها وخبرها مرتين مرة في (كانتين ) تابع للقائد سعيد أحمد البيضاني في معسكر عبدالقوي بخور مكسر، والمرة الثانية في دكان في (جعار) بأبين أرض الحاس والحسحاس والظلم الشديد فغادرها وامتهن مهنة الصحافة .ومن موضوع الاحتفاء بالشحاري إلى موضوع الاحتفاء بالرقص والغناء والطرب في السردية 
يتبع(2). . .