ولم اجدني ....!
منذ مدة ليست بالقصيرة ، تلح علي فكرة العودة إلى الديس الشرقية ،والبحث عني هناك ، لعلني اجدني في زاروب من تلك الزواريب، أو مطراق من المطاريق ،أو في بيتنا الطيني .وجدتني في شوق جارف أكثر من أي وقت مضى منذ غادرتني إلى طفولتي وزمني الجميل . أريدني أن اعتذرمني،وأقل لي سامحني،لقد حملتني وتحملتني كثيراً..عفوا لقد خذلتك في مواطن كثيرة ، لم أكن فيها على قدر الأمانة والمسئولية.حاولت،لكن الأعباء كانت أكبر مني ومنك ! كنت أريد أن أقول لي : لماذا تركتني أكبر ولم تتركني طفلاً معلقاً بأِهداب طفولتي حتى النهاية.
لم أعرفني،ولم يعرفني أحد..! " نسيت كيف أقبل ذي السترة وذي السترة، "وماحب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا" .لم أجد منهم أحداً، لم أجد أحداً من طفولتي، زملاءدراستي،جدي، حبابتي، أبي ،أمي، عماتي ، جيراني ..الجميع، عندما سألت عنهم قالوا لي : استدرجهم الموت بطريقته اللذيذة! وأشاروا إلى المقبرة:
- ستجدهم هناك !
2
في المقبرة لاتعرف قبراً من قبر،كل القبور متشابهة،
لاشواهد قبور،لاأسماء،لاتواريخ وفاة أو مولد،ومثل كل أهلي في الديس عندما يمرون بالمقبرة التي تقع في طريقهم إلى النخيل ومعيان الصيق قلت كماكان يقول النبي ( صلعم) ويقولون :" أنتم السابقون ونحنُ اللاحقون " وقرأت الفاتحة على أرواحهم أجمعين . ولم أجد أحداً من زملاء طفولتي فأتوغل معهم كما كنا نفعل في غابة النخيل،نلقط اللقيط، والغاسي،والبسر،والرطب، وكل مايسقطه نسيم المساء ورياح الليل.. كبرت وكبروا وصارت لنا دروب أخرى مختلفة !
3
بحثت عن حسن يعقوب،كان له قلب طفل،ضخامة رجل ورجاحة حكيم،لم أجده لأقول له : ظفرنا بالإستقلال لكن لم نجد الحرية ! كان هو من أقنعني بالانضمام إلى صفوف الثورة ضد الإستعمار والإحتلال البريطاني لعدن والجنوب، نجحنا في طرد الإنجليز وانتزاع الاستقلال وقيام الجمهورية، لكن لم نعرف كيف نقيم الحكم الرشيد ونصون الإستقلال ، فأضعنا الإثنين. كان الأستاذ حسن يعقوب،مدرس اللغة العربية أنموذجاً خاصاً من الناس. تقريباً قلة تعرف أنه كان من الطليعة الأولى للثوار في الديس،لكنه بعد تحقيق النصر لم يسع إلى منصب،أو يتبجح بانتمائه إلى الثوار ، بل ظل يؤدي رسالته كمعلم يعلم الأجيال اللغة العربية. كنت أريد أن أقول له ولي لم نعرف كيف نصون الإستقلال ولاكيف نحافظ على اللغة العربية!وكنت أريد أن أقول له كنت رائعاً في حبك للغة العربية، وفي نبلك كنت أقرب إلى الفرسان، كنت عظيماً في عزوفك عن المناصب وزادك من احترامي واحترام الناس لك ..كنت صادقاً مع نفسك ومع الناس ومع مُثل الثورة !!
4
كنت أقرأ لعمي سالمين "ألف ليلة وليلة " في ليالي رمضان، والزير سالم والتغريبةالهلالية ،ومغامرات عنترة وعبلة ،وسيف بن ذي يزن. لم أجده لأقول له إن أبطال السير الشعبية الذين كان يعشقهم ومعجباً ببطولاتهم لايشبهون أبطال هذا الزمان يقتلون رفاقهم ويمشون في جنازاتهم !
لم أجد أولاد عمي محمد صالح ، سعيد وعبدالله ، وكنا كل مساء نتبادل الحكاوي والمحازي فوق مصطبة بيتنا في القويرة في مربع آل بحاح حيث بيوتنا الطين متلاصقة في تناغم حميم ! وكان جارنا عبدالحافظ البكري أنيس سمراتنا تلك، وكنا نستعيد حكايات الجدات ونضيء ليالي الديس بقصص تنسينا ظلام ووحشة الليل. وكان ابن عمي عبدالله بالذات يتمتع بحس الفكاهة ، ويحكي قصصا فكاهية لا أدري أين سمع بها ، وفي كل مرة كنا نضحك من أعماقنا خاصة لتلك المرأة المسكينة التي كلما تشك عقد اللؤلؤ تخرطه لأنها في كل مرة تنسى حبة من العقد، وكنا نسمي تلك القصة او المرأة( شكه واخرطه ) لم انسها ولم انس سمراتنا تلك !
ولم أجد صديقي محمد احمد مصاقع ، ولا شقيقه عبدالله ، كنا نسهر الليل في بيت عمتي خديجة، نلعب الورق في الدور العلوي مع ابن عمتي سعيد ونذهب معاً للإغتسال في الصيق ،أوفي مقالد المساجد ، وخاصة مسجد النور ومسجد السادة . كم أتمنى أن تعود تلك الليالي .
5
ولم أجد مقهى المعلم حميدان ، حيث كنت أحتسي الشاي خلسة حتى لايراني مدرس من مدرسينا، لأن جلوس التلاميذ الصغار في المقهى يعد عيباً !!
لم أجد المقهى ولا المعلم !
ولم أجد زميلى دراستي في الإبتدائي والمذاكرة صالح عوض الحريبية، ومحمد سعد باصلعة، وكنا نذاكر بعد كل ظهيرة في منزلنا.
6
ذقُتُ طعم المالح لأول مرة في بيت زميلي جمعان عبيدحيول وكنت كلما زرته في بيتهم ، يضيفني والده العم عبيد ألذ مالح يمكن أن تطعمه في أي مكان في الدنيا. قبل أن اتذوق مالح العم عبيد حيول المصنوع من سمك الديرك ( الطرناك )كنت لا أحب أكل المالح ولا أطيق رائحته، ولا أعرف أن للمالح كل تلك اللذة ! ملوحته لاتزال في فمي دون أن أشعر بالظمأ!
لم أجد صديقي جمعان ولا العم عبيد لأقول لهما كم أنا مشتاق لهما وللمالح! ولم أجد صديقي وجاري العزيز من زمن الطفولة الجميل محمد عبدالله باحميد، وكان والده العم عبدالله يصنع انواعاً من الكعك الذي كنا نسميه "البُر"في الديس،وكلمازرته كان يقدم لي قطعاً منه، ومن الحلوى كانت تجلب لي المتعة والسعادة.
7
كنت أدمن صوت الشيخ عبدالله سعيد غانم ، وتلاوته العطرة لآيات القرآن الكريم،وكانت تلاوته تشبه تجويد الشيخ عبد الباسط عبدالصمد،وكان يتمتع بصوت شجي وذاكرة حديدية،وكنت كلما شعرت بالضجر أذهب إلى بيته القريب من بيتنا،يكفي أن أخرج من المسلف لأجد نفسي أمام سدة بيته،فأجده يتلو القرآن أو يستمع إلى هديل الحمام الذي كان يربيه في بيته ! لم أجده ولا الحمام وكنت في أشد الشوق لسماع الإثنين! أغمضت عيني واستحضرت صوته وبعض تلاوته لأي الذكر الحكيم ،وأصوات هديل الحمام،وأصغيت بروحي فسمعت تقاسيمهما كما لم أسمعها من قبل !
8
كلما نظرت إلى النقوش في سدة بيتنا،وإلى نوافذه أتذكر النجار مسعود محفوظ بامسعود،ظل لعدة شهور ينحت بالإزميل والمطرقة خشب السدة ونوافذ الدور الثاني في بيتنا في القويرة بحس فنان ومهارة نجار وخبرة نحات.وكنت أراقبه طوال هذه الأشهر وهو يحول كتل الخشب إلى قطع فنية في منتهى الإتقان . لم أجده لأقول له إن صمت الخشب يمكن ان يتحول على يد فنان مثله إلى تحف فنية لومارس فن النحت في غير صنع الأبواب والنوافذ ! وكان بامسعود فناناً بحق يعزف العود بيده اليُسرى إذ كان أعسرا و يتمتع ببعض المهارات الأخرى .
اما زميل دراستي في الإبتدائية محمد صالح بامسعود، فقد التقيت به في الإمارات حيث يقيم منذ عقود، ،ونتواصل معاً عبر الواتس في الشبكة العنكبوتية. ونتبادل رسائل المحبة عن ذكريات أيام الطفولة والزمن الجميل الذي لايُنسى في وادي عمر .
9
كان قريبنا عبدالقادر العماري يصطحبني في بعض العصاري إلى جول الديس حيث عريش " بو صليب " المصنوع من سعف النخيل، فتقدم لنا الشاي الأحمر المغلي على الفحم وتحكي لنا الحكاوي بلهجتها البدوية، وعن عشقهارقص" الهبيش " الذي تشترحه في زيارات الأولياء في المشقاص ، والذي لايعادله عشق.وكنت أحاول أن أتصور ملامح وجهها من خلف البرقع البدوي السميك الذي لايظهر غير عينيها ،وكنت معجباً كثيراً برقصها للشرح البدوي،وكلما كانت تخفيه داخل ثوبها البدوي المخمل السميك كانت تظهر كل أنينه المكبوت في رقصها الهبيش الذي تشعل به المدارة حتى أصبحت أشهر راقصة شرح في كل حضرموت . كم كنت أتمنى أن أقول لها لم ار أحداً يشترح مثلها وتستحق لقبها ( بوصليب ).لكنها لم تكن هناك ولا عبدالقادر العماري !
10
ولا السيد جعفر ، بهلول الديس ،ولكل قرية بهلولها كمافي روايةالطيب صالح ( عرس الزين ) وكنا نتبرك بالسيد جعفر كما كان أهل قرية الزين في السودان يتبركون به. تزوج الزين بأجمل فتاة في قريته ، لكن لانعلم أن السيد جعفر له زوجة او ولد في اي مكان من الامكنة الكثيرة التي قيل أنه كان يظهر فيها في نفس الوقت ! أوكان له بركات كما كان للزين!
11
وجدت هبورك"، ولم اجد "هامبورك" كما كان يطلق على قريته الواقعة في ضواحي الديس ، صديقي عبدالحافظ مقبل ، لكني لم اجده. كنت سأقول له أن اسم هبورك جميل جداً كماهو منذ أن ورثت اسمها من الأجداد الطيبين ، ولم تكن تحتاج إلى تغريب اسمها إلى مسمى يحاكي المدن الأجنبية على غرار نيويورك ، الامريكية، وهامبورج الألمانية. هبورك جميلة كما وصفها الشعراء المحضار والمعلم حميدان وباجعالة ،و " الرومنسي".
ومن غير المحضار يقول في هبورك : سقى الماطر ديورك،/ واحيا الغيث واديك وشعابك/ من حمم لاهبورك/ هنا ياغصن ربوك/ يسقونك من العين / خلاص انت وبس زين /إذا فارقتني وين / بلقى عينتك وين / خلاص انت وبس زين "
ليقول المعلم حميدان : " ماشفت انا يوم نورك/ يشرف علي من هبورك / قلي إن كان شي علي دين / بعد لاتقارب مافائدة في دموع العين ".
وهاهو الشاعر سعيد سالم باجعالة يلقي بكل حمله من حب يحمله لهبورك : "على الجبر والواجب ضوينا / هبورك ترحب بالضيف تتقبله / مارموك على كوده/ لقوا لك وقى حيث ماتجلس وظلال ".
وهاهي قصيدة حب أخرى لهبورك من الشاعر عبدالله بن ضمن ( الرومنسي ) : مانسيت الجول ولاداك الحصن / والرجيدة لي هي وسط القلوب / والخلة ابي فيها محله وسكن / وهبورك انا في حبها ماتووب ".
12
ورأيتني كلما تذكرت أحداً لا أجده ولا أجدني ، لم يبق معي إلا عطر ذكرياتهم..مروا ومر الزمن بسرعة عجيبة .
لماذا يازمن لم تمنحنا فرصة البقاء معاً أطفالاً أبرياء كما كنا ، نلعب دحدوح المرق ، والهوكري هوك ، ونرمي بشوقنا في مجرى السيل أوبحر القرن وشرمة .؟!!!
ونمشي إلى المساجد في آذان الفجر وعتم الليل ، وننتظر ليلة القدر بشوق العشاق في العشر الأخيرة من كل رمضان !
أتجول في رُبى الديس ابحث عني فلا أجدني ، عبثت بي الاشواق وبعضي يبحث عن بعضي ، فلا يجدني ولاأجدني !