عندما أعلن عن فوز زكريا تامر،القاص العربي السوري بجائزة سلطان العويس في القصةسنة 2002مُناصفة مع الكاتب محمد البساطي،كنت في الإمارات. يومها ثار جدل  في الأوساط الثقافية والإعلامية، ليس عن أحقية زكريا تامر بالجائزة ،فهويستحقها،وقد استحقها بجدارة،بل لماذا لايفوز بكامل قيمة الجائزة وقدرها 120 الف دولار ؟!
 يومها كتبت عموداً في صحيفة (أخبار العرب)اليومية الصادرة في ابو ظبي ،  وكنت محرراً في مكتبها في الشارقة ، أشدت فيه بنيله الجائزة، وبمكانته البارزة والأفق الذي فتحه في كتابة القصة العربية ،وأذكر انني عنونت عمودي : "زكريا تامر؛ سباك القصة القصيرة العربية".لامني البعض حينها على هذا ،واعتبروه غمزاًمن مكانة الكاتب الكبير الذي بدأحياته المهنية حداداً في أحد معامل دمشق،وهو أمر لايخفيه، بل يفتخر به.وتوقعوا أن يُغضب ماكتبته الكاتب الكبير وينقص عليه فرحه بنيل الجائزة! 
                       2
 ماحدث،كان العكس،فزكريا تامر الذي قرأ عمودي قبل وصوله إلى دبي لإستلام جائزةالعويس،أسعده ماكتبته عنه،ورحب بي بمجرد أن اتصلت به في غرفته في الفندق الذي ينزل فيه،وكان أول ماقاله لي عندما عرفته بنفسي :
 - انت كاتب العمود في اخبار العرب ؟
 أجبته: نعم .
 فقال : انتظرني ،أنا نازل .
 بعض دقائق كان في البهو يبحث عني ، تقدمت نحوه وعرفته بنفسي مُجدداً، وهنأته بفوزه بجائزة العويس.وهذه هي المرة الأولى التي يفوز فيها كاتب للقصة القصيرة بالجائزة التي فاز في دوراتها السابقة شعراء وكتاب روايةوفروع أخرى. واعتبرت فوزه فوزاً لكل كتاب القصة القصيرة،التي لاتحظى عادة بماتستحق من اهتمام لدى مؤسسات منح الجوائز!!وهذه لفتة تستحق التقدير من اللجنة القائمة على منح الجائزةومن مؤسسة العويس،ومن صاحبها الشاعر الإماراتي ُسلطان أحمد العويس.
                        3
جاءت الجائزة زكريا تامر وقد تجاوز الستين من عمره ، وبعد رحلة كفاح مريرة، ومشوار طويل في كتابة القصة، لهذا ربما جاءته متأخرة ،لكنها لم تغير فيه كثيرا: "ماذا يفعل الكاتب بعد أن يتجاوز الستين بجائزة مالية كبيرة؟
سوف يصرفها على الأطباء والمشافي والأدوية..مشكلة الجوائز أنها تأتي في أرذل العمر !!" هكذا علق زكريا تامر على نيله الجائزة .
لكن الراحة المادية لم تدفعه إلى الركون إلى الكسل، بقدر ماحفزت لديه المزيد من الكتابة والإبداع اللذين يبرع فيهما ، وفي ذلك يقول: "ساذج من يظن أن الراحة المادية للكاتب تغريه بالتكاسل،فالكاتب مخلوق من لحم ودم ، ويحق له مايحق لغيره من الكائنات البشرية، أما الأوهام الزاعمة بأن الفقر ينمي الموهبةويصقلها ، وأن الشقاء يشجع على الإبداع والابتكار، لهي أوهام لايليق بها الا الدفن   .ومادمت ُ كنتُ أكتبُ بنشاط من دون أي تقدير معنوي أو مادي، فليس من المعقول أن استسلم للكسل بعد التقدير غير المتوقع الذي نلته"،ويضيف ؛ "عموماً كتاباتي مجانية وليس لها ثمن لأنها للحياة والإنسان". وقد اصدر بعد نيله جائزة العويس سنة 2002 مجموعات قصصية هي : تكسير رُكب ، القنفذ، ارض الويل، ونداء الحصان ،لكنه منذ عام 2018 توقف عن إصدار مجموعات جديدة .
 ويبدو ان جائزة العويس كانت قدم السعد عليه ، فقد نال وسام الإستحقاق في نفس العام من رئيس الجمهورية العربية السورية بشار الاسد، وجائزة
ميترو بوليس الماجدي بن ظاهر للأدب العربي سنة 2009، وفي نفس العام نال
جائزة مُلتقى القاهرة الأول للقصة القصيرة.
                          4
منذ بداية السبعينيات من القرن العشرين الماضي،عندما بدأتُ أنشر أولى قصصي القصيرة في الصحافة المحلية في عدن ، والصديق القاص ميفع عبدالرحمن رحمه الله، يُشبهني بزكريا تامر ! وكنتُ أتقبل تشبيهه ذاك واعتبره إطراءً لا استحقه، إذ كنت شاباً صغيراً في مُقتبل ُعمري، وفي بداية مشواري في كتابة القصة القصيرة، بينما كان زكريا تامركاتباًمشهوراً.وكنت من قرائه والمعجبين به وبأسلوبه فيماقرأت له من قصص قصيرة،وربما تأثرت به دون قصد ضمن كثيرين تأثرت بهم في بداية مشواري وهو أمر طبيعي يمر به كل كاتب في بداية حياته قبل أن يجدأسلوبه الخاص وشخصيته وبصمته الخاصة به .
وللحقيقة، لم أسأل صديقي ميفع عبد
الرحمن وهو من أهم كُتاب القصة القصيرة،عن سبب تشبيهه لي بزكرياتامر.
كذلك لم اعتبره من باب المجاملة، لما اعرفه عنه من الصدق،والشجاعة والجرأة ،وحدة الطبع والبعد عن التدليس والمُجاملة.مرت السنوات.توفي ميفع أثر أزمة قلبية دون أن أتمكن من سؤاله، لكنه حضرني بقوة أثناء كتابة هذا المقال عن زكريا تامر ، وتشبيهه ذاك الذي كان يقوله لي كلما ألتقينا،وأخذت أتمعن فيه لأول مرة بعد كل هذه السنوات التي تمتد نصف قرن تقريباً لأكتشف أوجه شبه بيني وبين الكاتب العربي الكبير في عدة أشياء، فكلانا من مواليد برج الجدي ،حيث ولد في 2 يناير سنة1931م، وولدت في 19 منه سنة 1949م،واضطر إلى ترك الدراسةفي سن الثالثة عشر، بينما تركتها في سن الخامسة عشر،بدأ حياته العملية حداداً في احد معامل دمشق،وبدأتها عاملاً في دكان ابي في عدن ،ثم  في دكان باظريس في جعار.تعلم من الحياة والكتب أكثر من المدارس،ومثله تعلمت. هو يكتب القصة القصيرة وأنا ايضاً، هو من مؤسسي اتحاد الكتاب العرب في دمشق،وأنا من مؤسسي اتحادالأدباء والكتاب اليمنيين في عدن، ترأس تحرير عدد من المجلات الأدبية، وكنت مدير تحرير عدد من الصحف اليومية والأسبوعية.ترجمت قصصه إلى عدة لغات منهاالإنجليزيةوالفرنسية والروسية والأسبانية،كذلك ترجمت بعض قصصي إلى عدة لغات اجنبية.يعيش في لندن منذ عام 1981،لكنه يحب مدينته دمشق أكثر من اي مدينة أخرى في العالم ،واعيش خارج وطني منذعام1991 ،لكني أُحب مدينتي عدن أكثر من أي مدينة أخرى،واحب بلدتي الديس الشرقية بحضرموت لأن فيها كل مخزون طفولتي الأولى التي أعود إليها واشتاق لها في كل وقت .
هذا من حيث أوجه التشابه في بعض سيرتنا الذاتيةومسيرتنافي الحياة،ولم يكن حتماًذلك ماكان يقصده ميفع عبدالرحمن بقدر ماكان يجد أوجه تشابه بيني وبين زكريا تامر في كتابة القصة القصيرة .
                        5
 في بيروت التي وصلها قادماًمن دمشق ،  كان قدره أن يلتقي بالشاعر اللبناني الرقيق يوسف الخال مؤسس مجلة "شعر"الذي آمن بموهبة زكريا تامر كما جاء في اطروحةهناء علي إسماعيل  عن الكاتب،فكان أن أطلق صوته في الساحة الثقافية العربية على أوسع مدى، مؤمناً بالإمكانات الخلاّقة لهذا الكاتب القادم من دمشق مستتراً بشراسته وقصاصات ورقه، مما جعله فيما بعد يحتل المكانة التي عرف من خلالها شهرته، صداقاته وعداواته أيضاً، وعن ذلك يقول محمد يوسف برهان: «في بيروت، لم تثن يوسف الخال شاعريته الرقيقة وروحه الشفافة عن تبني هذا النص الجارح، والقاسي، والمصنوع بيدي حداد، فقد أسعفته رؤيته النافذة، وألهمته يومها أن هذا القادم الذي يتأبط شراسته،سيفتح أفقاً آخر في القصة العربية وستكون له الحظوة في الارتقاء بالقصّ العربي، إلى حداثة كان يتبناها يوسف الخال أصلاً في الشعر. هكذا خرجت "صهيل الجواد الأبيض" أولى مجموعات زكريا تامر القصصية. وكان لمجلة شعروصاحبها، اليد الفضلى في اكتشاف القاص الجديد وتقديمه، والذي سرعان ما احتل مكاناً بارزاً ومفارقاً في الشارع الأدبي». 
                     6
 زكريا تامر الذي ترك مهنته التي بدأها عام 1944وتنقل أثناءها بين عدة مهن،    عندمابدأ بكتابة القصة القصيرة عام 1957كان ما يزال يستعمل المطرقة والسندان. وفي العام 1960، ترك مهنته، لا لأنه كان تواقاً إلى تغييرها، بل لظروف اقتصادية مرت فيها البلاد، حين عمت  البطالة،وأقفلت أكثر المعامل، اصدر مذ ذاك 12 مجموعة قصصية بدءً من : "صهيل الجواد الأبيض"،1960،و"ربيع في الرماد"، 1963.و"الرعد" 1970.و "دمشق الحرائق"،1973.و"النمور في اليوم العاشر"،1978و"نداء نوح" و"سنضحك"1998.و"الحصرم"2000
.و"تكسير ركب"2002.و"القنفذ"2005
.و"أرض الويل" 2015.وانتهاءً ب "نداء الحصان"2018. كما اصدر قصصاً للأطفال هي :الحمامةالبيضاء،والبيت،
والأولاد يضحكون، وكلها في عام 1975.ولماذاسكت النهر؟.وقالت الوردة للسنونو.وبيت للورقةالبيضاء.وكلها
 في عام1977.ونصائح مهملة.. عشرون قصة للأطفال في 2010. وأخيراً،37قصة للأطفال نُشِرَت في كتيبات مصورة سنة2000.
                      7
 مع انه يعيش منذ العام 1980/ 1981  في لندن ، ويقطن حالياً في اكسفورد ، لكنه كما يعترف لم تمنحه شخصية واحدة للكتابة عنها ! ماذا يمكن أن تمنح أكسفورد لابن حارات دمشق الشعبية القديمة؟ "الذي ظلت في خياله وذاكرته ، ينطلق منها ويعود إليها، يفارقها، ويحن إلى ازقتها بما فيها من شقاء وفرح ، وقسوة وحنان، يصنعون منه ذلك الإنسان ذا الطبيعة البشرية بقبحها وجمالها كما تقول هناء علي إسماعيل ، فكاتب "دمشق الحرائق " لايزال يحن إلى مدينته،التي كتب عنها الكثير،مدركاً الأبعاد الواقعيةلما يمكن أن تقدمه تلك المدينة المفعمة بالشجاعة والحياة، من حزن وشقاء. وفي ذلك يقول زكريا تامر :  "نعم احب دمشق لأنها تمنحني الشقاء والفرح في آن ، ومن يعتقد بوجود مدينة تمنح الفرح فقط، فهو مخلوق لم تطأ قدماه البتةأرض الواقع..".
  والحقيقة ليس ذلك حال زكريا تامر وحده،فالروائي العراقي الكبير غائب طعمة فرمان،كان يعيش في موسكو لكن كان بقلبه في بغداد،ومشدوداً إليها على الدوام ،ويكتب عنها، ويختار منها احداث وشخصيات وأبطال رواياته.كذلك كان الروائي السوداني الكبير الطيب صالح يعيش في لندن،لكن شخصيات رواياته " عرس الزين " و"بندر شاه مريود"وحتى سعيد بطل "موسم الهجرة إلى الشمال" وابطال قصصه دومة ود حامد ، كانوا من السودان.ونجيب محفوظ الروائي العربي العالمي الحائز على نوبل في الآداب،قال ذات يوم انه لايعرف أن يكتب عن الأرياف كما يكتب يوسف إدريس، لأنه ولد في حي الجمالية وعاش فيه،لهذايجيد الكتابة عن حواري القاهرة
،ويختارأبطاله وشخصياته من المدينة .
                        8
 لم تكن علاقةزكريا تامر بالمثقفين في وطنه سورية على مايرام.يقول عن هذه العلاقة: « إنسان المعمل له وجه واحد
،الصديق صديق، والعدو عدو، ولكن اضطراري إلى الاختلاط بأوساط المثقفين،جعلني أكتشف أن الشخص الذي يمكن أن يُعتبَر تشي غيفارا في هذه الأوساط، له مئة وجه على الأقل. وأحار بين الوجوه وتصعب علي كيفيةالاختيار ففي مُجتمع المثقفين لاصداقات ولا عداوات. من هناأقول:إن حياةالمعمل تمنح الإنسان ثقة أكثر،بينماالعيش مع المثقفين يزعزع هذه الثقة بالإنسان، فإذا أردنا تصنيف شعبنا على أنه من المثقفين فحتماً سيكون رأيي فيه أكثر من سلبي»
..وهذاالموقف السلبي لزكريا تامر – من المثقفين الذين عاصرهم لم يكن أحادي الطرف،فالنفور كان متبادلاً كما تقول هناء اسماعيل مع اختلاف الأسباب الكامنة وراءه،فمثلاً نسمع محمد يوسف برهان يقول عن هذه العلاقة المتوترة مع محيطه الثقافي:ويحق القول إن الضغينة الدفينة التي سرت في نفوس من اتهموه وقتها، كان مردها سؤال بخس آخر، هو: كيف لحداد متواضع التحصيل، مارس الأدب بين المطرقة والسندان أن يشغل اسمه كل هذاالصدى؟".والحمد لله ان الوسط الثقافي والإعلامي في عدن تقبل الفتى القادم من الريف والذي لم ينل حظا كثيرا من التعليم ،والشحاري ابن الشحاري،لهذا لم تكن علاقتي متوترة مع المثقفين في عدن بقدر توترها مع بعض السياسيين في السلطة وخارجها..
                      9  
 في مقابلة أجراها معي الزميل الراحل الدكتور مسعد أحمد مسرور قبل سنوات من رحيله المفاجيء سألني ماهي القصة القصيرة فاستشهدت بما قاله زكريا تامر : القصة القصيرة هي بحق الغرفة الأنيقة التي تحتاج إلى ذوق رفيع وحساسيةمرهفة لتأثيثها بعناية فائقة، وهي شكل من أشكال التعبير الأدبي القادر على التطور والتجديد ".
                 10
 ●كرمت جائزة العويس خلال مسيرتها منذ تأسيسها سنة 1990م600 شخصيةومؤسسة في كافة مجالاتها التي تشمل : شخصية العام الثقافية، الجائزة الثقافيةالخاصة،والمسابقات العامة( افضل كتاب ، افضل بحث، افضل إبداع أدبي من روايةوشعروقصةومسرحية وترجمةوكتاب طفل ) إلى جانب جوائز الابتكار العلمي والفني بمختلف إبداعاته ؛التشكيل، التصوير، النحت، الزخرفة،الفيلم الوثائقي، والبرنامج الإذاعي .
 وفاز بجائزة العويس للشعر في دورتها الثالثة من اليمن الشاعر الكبير عبدالله البردوني سنة 1992،والشاعر الكبير عبد العزيز المقالح في دورتها الحادية عشرة سنة2008.