▪️يحضرُ الإسقاط في الأدب كوسيلة جمالية تجمع بين شيئ من المرح و الجد ما قد يؤدي برسالته  إلى شكل أكثر تأثيرا لعملية البناء في لغتنا الجميلة .ويحضر الإسقاط الأدبي بعدة صيغ  يتجلى فيه إبداع الأديب مع براعة الطرح ومرونته وتميزه .. وتلك هي  محركات :
    * إستثارة الدهشة ، 
    * الحسِّية العميقة في كسر جذع اللغة العتيق ،
     * والشعرية في الإيجاز الفني للعبارة ـــ حد تعبير أنطون تشيخوف يصف البرق : *« كأنَّ أحداً مَّا أشعل عود ثقاب في السماء »* .. أو انعكاس ضوء قنينة في ظل طاحونة ليعطيك ليلةً مقمرة .

    هذه كلها من سمات المبدع ، وهو ما تتسم به الصورة في النثر الفني من قبيل الإدهاش الرؤوي ، والاستمتاع بصوغ العبارة عند تعبيرها غير المألوف الثابت . وتظهر عملية *«المتحول»* في كتابات الأديب القاص والإعلامي الكبير *« محمد عمر بحاح »* في قول أحد أقطاب الصحافة العالمية وهو ريد في صحيفة التايمز اللندنية ..... حيث قال لكل كاتب صحفي يلج هذه الإمبراطورية : عليك أن تتصور أنك تبعث بمقال لك إلى إحدى الصحف عبر التليغراف ، وأن الكلمة الواحدة تكلف شلناً .."*" فلا بد لك من الاقتصاد في اللغة ولكي تصل إلى أقصى حدود الإيجاز والاستلطاف من القارئ 

     والإيجاز في اللغة العفوية  كي يتسم بالإبداع يقوم على فن الحذف .. وقلة في الأدباء والإعلاميين من يجيد هذا الفن!
 واحدٌ من هؤولا المبدعين منذ شرَعتُ في قراءته كان الأديب والصحفي البحاح الذي إستمد محركات أو مُشَوقات الجذب إلى كتاباته من شفافية صناعته الأدبية ؛ وكقاص ذي طبيعةٍ « تشيخوفية » .. وسأضرب مُثُلا لنهجه أو أسلوبه اللغوي الفني .. خذ قوله هذا في كتابه الموسوم *« أشيائي »* الصادرر مؤخراً عن مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر ــ القاهرة ، مصر العربية - الطبعة الأولى 2024م :
      
   *« ذات زمن .. ذات بحر » ويسحبنا إلى عدن ، لقد أوجز لنا متلازمة الزمان ـ المكان حد قول تشيخوف : أبلغ وصف للبحر سمعته من طفل صغير حيث قال *« البحر كبير »* فلم يزد عليه من نثريات لاستكشاف سحر البحر غير عظَمَته..! فهكذا استثمر الكاتب حد الوسع الزمانَ والمكان ليرينا سعة عدن : ملء السمع والدنيا ( قوله ) .
     على أنني هنا أتواثب بين المتون لأستشف دفائن الكتاب في مواطن عذوبته ، ولا أتوقف عند نص أو عنوانٍ بعينه .. ثم أرجع إليه لأستبصر الفوت .  لقد قدم لنا وصفاً أريحيا لـ « عدن » أم تجارة الدنيا ما بعده من مزيد ... حتى أوفت إلى السقوط في مستنقع الغباء السياسي .. عدن التي توقف عندها الصحفي الرحالة أنيس منصور في *« 200 يوم حول العالم »* وقال عنها لبائع المقتنيات الجلدية وهو في سنغافورة التي هي أرخص بلد في العالم : أتبيعني هذا الحزام من جلد الثعبان بجنيهين وهو في عدن بجنيه واحد؟! غير أن البحاح برشاقة عبارته أسكنها في قلوبنا بكل معطياتها الباذخ منها ولم يغفل منها حتى الرائحة ، والسافل بما آلت إليه وبوجع العبارة التي تنعي رحيل بحرها ومِينائها الحر بعد نيويورك الثاني في العالم .
     ونجد الإشباع في كل سرديات ( أشيائه ) الشائقة الباعثة على عودة الروح .. حتى كان ذات مرة قد أوجزها لنا في عبارة شديدة الألق والتوهج : 
  *« ذاتَ عدن .. ذات زمن »*
التي يقف عليها وشقيقاتها هذا المؤلَّف بعيد الرؤية حسبَ قول الناقد العربي «النفَّري» : *« كلما ضاقت العبارة اتسعت الرؤية »*
                    *

 وأقول في الأسلوب « العفوي » "**" أنه لا يتصنع الكتابة اعتباطا ، إنما بما يجري في أروقة حسيَّته العميقة بالأشياء التي تدور في محور اهتماماته .. فتتولد عباراته بالدقة المتناهية لجزالة التعبير عما يراد تزكيته بمستوى الأدب .

    إنه يرنو إلى الأدب في كل ما يكتبه وإن يكن مقالا لذائقة الصحافة وعموم القراءة ، وهو ما يعمل عليه أساطين الصحافة الفنية ـالأدبية الأكثر تأثيرا كالسيدة سهير القلماوي التي أجاز كتابتها عميد الأدب العربي ، وكالصحفي الرحالة أنيس منصور ، ونجده في ثراء جورج الخوري وهو من أصبح يطلق عليه لقب *« إسم من ذهب »*
  
   وهاكم هو الأديب والصحافي والمثقف الكبير محمد عمر بحاح يحل في هذه المكانة الأدبية المرموقة على الصعيد الفني ـ الأدبي بما يحققه في التواصل مع القراء وتحسس القضايا الحياتية والشؤون العامة التي تهم الإنسان من خلال إضفاء مرونة على لغته الأدبية ؛ وهو المستوى الذي يقف فيه الأدباء للتعبير عن عواطفهم ومشاعرهم وتجاربهم الإنسانية بوجه عام . ولا أقول فيها بما يشترط في لغة الأدب من خيال وجمال .. وإنما بما يفهمها أكثر الناس استساغةً بالذائقة الجمالية في كل صورة من صورها الفنية ، وإنَّ اهم ما تمتاز به لغة الأديب البحاح : البساطة والوضوح والإيناس واللطف والرشاقة في العبارة ، فلا تجد التقعر والتسطيح والغرابة في هذا الأسلوب ـــ وهكذا من يستخدم لغة الصحافة الأدبية بامتياز لا يُنازع بما هو من سمات التحرير الصحافي المقالي وإنما على مطية الأدب . وهذا هو الأستاذ في ميدانه الأديب محمد عمر بحاح الذي يتوفر على ميل أدبي لكتابة القصة القصيرة بما يجمع بين إبداعه الأدبي وظروف الحياة اليومية التي عاشها في أشيائه.

    ماذا يُعنى بهذه العبارة النقدية : لا يهُم ماذا يكتب ، بل كيف يكتب With this critical phrase: It does not matter what he writes, but rather how he writes

    رغم أهمية السياق الاجتماعي والسياسي والفكري الذي يكون النص نتاجا له ، فإن أهمية السياق على الجانب اللغوي في توجه الكاتب وفكره ترتكز على اقتصادية اللغة في دقتها وطزاجة تركيب العبارة بما يشكل عامل جذب للموضوع أي تحرير ذلك النص . من هنا نعرف معنى العبارة *« الكاتب هو الأسلوب » وفي هذا كنا نميز مأتَى الإبداع لنتقبل سياق الجملة وموضوع النص .. وهذا هو ما تميَّز به ــ على سبيل المثال أنطون تشيخوف الروسي ، وهانز كريستيان أندرسن الدانماركي وغيرهما من أساطين الندرة في الإبداع والتميز العالمي حتى ليقال عن الراصد المبدع في استظراف نصه والإقبال عليه *« إنه بكلمات قليلة استطاع أن يقول لنا أشياء كثيرة وجميلة »* بما يعكس مدى جودة العمل الأدبي .. ولطالما كان هذا هو « الأسلوب » الذي اعتمدته مؤسسات الجوائز العالمية گ *بوليتزر* في مجالات الخدمة العامة للإنجاز الأدبي والصحفي المتميز بموجب إرادة جوزيف بوليتزر رائد الصحافة الأمريكي، كذلك *نوبل* للآداب بموجب إرادة الفِرِد نوبل السويدي لكل ماهو مسؤولية اجتهاد وعمل جمالي وأخلاقي وسلوك وكلمة طيبة وأثر طيب .
فالأسلوب هو الرجل أو الأسلوب هو الإنسان ، المقولة الشهيرة التي ظهرت في أوائل القرن العشرين تعني أن الأسلوب الذي يتميز به الكاتب يعكس خصائصه الأساسية .
    ومن هنا نصل إلى الأديب الكبير المتميز البارز والصحافي البارع المبدع *« محمد عمر بحاح »* كإسم من ذهب .

ــــــــــــــــــــــــــ
"*" وقت أن كان الشلن البريطاني قد ضُرِب من الفضة عند بدء طرحه في عام 1503 حتى عام 1946, وهو ما كان  يساوي¹/²⁰ من الجنية الإسترايني اليوم .
"**"العفوية هنا لا تعني كونها نتاجا للفطرة فحسب باعتبارها ذات طبيعة تلقائية بعدم إعمال الفكر ، بل ومكتسبة بالذائقة الجمالية .

                  🔳🔳