البعض يولد كبيراً ،ثم يتناهى في الصغر حتى يتلاشى..والبعض يولد صغيرا ثم يبدأ يكبر قليلاً قليلاً ، والبعض يولد كبيراً ، ويظل كبيراً حتى النهاية !
 والبعض يولد وفي فمه ملعقة من ذهب ..جنيد الجنيد ، ولد وفي فمه ملعقة من ِشعر ..
 ولد شاعراً كبيراً،وظل كبيراً ،صعد القمة ، وتربع عليها..يطاول نخيل حضرموت طولاً وسموقاً،ومنارةالمحضارإرتفاعاً وعلواً. 
لمالا ؟..
أليس جده لأمه الشاعر الكبير أبوبكر بن شهاب ؟!
اوليس هذا " الجد بالذات،هو نفسه من صمم منارةالمحضار .. مئذنة الأبد" كما يسميها جنيد في قصيدته التي تحمل نفس الإسم ..تلك المنارة التي صارت رمزاً لمدينة تريم ومعلماً من معالم حضرموت الخالدة والتي يبلغ ارتفاعها 53مترا . مرة في الصبا ؛ بمعية أمه ، صعد لها: اربعا وثلاثين بعد المائة، من الدرجات على السلم الحلزوني..رأى الجبال التي تكتسي بصدى للأذان، وقد حملت بين اثقالها الراسيات، نداءات تكبيرة خاشعة. رأى جميع البيوت، تفك النوافذ كي تستضيء باسرار نور تلألأ في ملكوت المقام ، وفاض باطيافه الساطعة، رأى القرى في البعيد، تحدد ميقاتها. حين يندمج الفجر، بين الهلال المطل على رأس قبتها، وقنوت اليد الضارعة، رأى السهول الخصيبة،خضراء ..خضراء ..حيث امتداداتها الشاسعة.رأى الذي لم يكن يتراءى على الأرض من قبل .. رأى من الحلم مالم يكن قد حلم به..فبسط يده جناحين ، يرتديان الفضاء، ولمس حوله السحاب ، فتهطل امه حنواً،ويدخل حضن حكايتها.
" فأرى ماأرى
وكيف بنى الجدُ 
 إحدى عجائب هذا الزمان 
 بناء تسامق مرآه
 من جذع نخل وطين وزخرفة الجير..       مئذنةهندستها أناملُ جدي            
 والقى عليها ظِلال قصائده..
 ملامح آياته الرائعة
 وهذي القناديلُ تملأُ كل السماء  
 بها تحتفي وتطوف باضوائها 
 فوق قامتها الفارعة 
                   2
 ولد جنيد محمد الجنيد في بيت اخواله في تريم سنة 1954م ( تخيلا ) يصف جنيد صورةولادته في قصيدة "مهد البهاء" في بيت جده ابن شهاب الذي جاء مبتهجا "وحنكه" بالشعر..
  "ولدت في بيتِِ
تسيُجُهُ تريم بشعر عاشقها
على البحر الذي تتماوج الكلمات 
في إيقاعه
وتشده طربا بقافية من الليمون
 والرمان والرطب الجني ..
سمعتُ وقعَ الجَد مبتهجاً 
ويهتف: يابني _ مرددا _
( بشراك هذا منارُ الحي ترمقه
 وهذه دور من تهوى وتعشقه 
 وهذه الروضة الغناء مهديةٌ
 مع النسيم شذا الاحباب تنشقُهُ)
ورنا اليٌَ بقبلة
 ومضى يداعبني بشيء
 يشبه الأحلام تكوينا

ورش عليٌَ عطر الورد ..
بللني برقة قلبه المملوء عاطفةً
ولف رداءه المنسوج

في ( حيدر اباد الهند ) حولي ..
طاف بي بين الأهازيج 
التي امتزجت 
بهدهدةِِ
ليشمل داخلي المعنى
وحوطني بطير الروح..
تحملني إلى أفقِِ
لاسبح في فضاء الأبجدية.. "
                    3
 جده لأمه شاعر كبير ،وجده لأبيه شاعر كبير ايضاً، وخاله شاعر ،وهوشاعر.قال الشعر وهو طفل بين الثالثة عشرة والرابعة عشرة من عمره، وكان حينها
تلميذاً في المدرسة الإعدادية في تريم. 
لكن الشعر كما هو معروف لايُورث.. سألت جنيد عن ذلك فقال لي :
- " لا أدري هل الروح تُورث..ولكن البيئة بمكانها الروحي لها تأثير في الإنسان.. وتستطيع أن تصنع منه ما يميل إليه من رغبات..والشعر إحدى الرغبات الإنسانية الجارفة في أعماق الشخص..فأينماوجدت
 تُربة خصبة للشعر صالحة نبتت عليها أشجار القصيدةبأغصانهاالوارفةوأزهارها الجميلة الفاتنة" .
طفلٌ ولد ونشأ وتربى في هذه الأجواء، ماذا يمكن أن يكون ؟ أماأن يكون شاعراً ،أوأن يكون شاعراً ، وقد كان .وليس أي شاعر ، بل شاعراً كبيراً،يٌشار له بالبنان مُنذ البداية،ولفت إلى شاعريته،أنظار 
كبار الشعراء منذ بداياته .
ماذا إذا حنكه به،جده لأمه الشاعر ابوبكر بن شهاب ، او خاله ؟ .ثم بعد ذلك ، عرف أسراره وحروفه وبحوره واحداًواحداً،
وبحراًبحرًا، فأدرك خفاياه، وكيف يقوله ، ويكتبه،وكيف يستعملها في قصائده واشعاره،ويشعل جذوته،ويرسم صوره، ويعزف موسيقاه الداخلية،ويغنيه بطريقته الخاصة ليصبح هذا الشاعر الكبير جنيد محمد الجنيد ؟!
                        4
 في تريم يُطلقون على بيت الجنيد " قلب تريم"، وهو مركز تريم الروحي،وقد أشار له في قصيدة(ابتهالات المنازل الأولى) : 
   "هذا المكان به جدي الفقيه غفا
    آثار سجدته أنفاس أهلينا
    هذا المكان به الغَنّاء نابضة 
    وكان قلب تريم الخير تأمينا"
بيت الجنيد كان عليه بيت الفقيه المقدم وبه مٌصلى داخل بيتهم للفقيه..وكان المنزل محاطاً بالمساجد في حوطة تريم إحاطة السواربالمعصم،من الغرب مباشرةً مسجد عبدالرحمن السقاف باخطفان ، مسجد أثري قديم أسسه عبدالرحمن السقاف المتوفي 819هجرية وهو أول من أدخل البرك المائية في مكان الوضوء في مساجد حضرموت . ومن الشرق مسجد باعلوي وزاوية الفقيه للإفتاء ولطلبةالعلم الشرعي،ومن الشمال مسجد العيدروس،(والد العيدروس العدني) الذي أسسه عبدالله العيدروس المتوفي سنة 865 للهجرة ،ومسجد الشيخ علي اخ العيدروس.ومن الجنوب مسجد علوي السمين وبابطينه ورباط تريم..
كان الفتى جنيد يتنفس ملء رئتيه هذه الأجواء الروحانية مذ سنوات عمره الأولى،  يتنفس هذه المدينة وهذه الشوارع.. هذه المساجد والمآذن التي تعلوها التكبيرات بقبابها النورانية ، يستيقظ والنوم يداعب اجفانه الصغيرة،
يُصلي الفجر بمسجد السقاف ، وعندما ينتهي من التسبيح يذهب إلى الرباط لتلقي العلم. وبعد شروق الشمس يتوجه إلى البيت للإفطار ،ومنه إلى مدرسة الأخوة..وليلياً،بين المغرب والعشاءيجلس 
في مسجد العيدروس يتلو ماتيسر له من القرآن في الحلقات المسائية. ثم يذهب إلى المعهد الديني لتلقي علوم اللغة والدين..
 وحين صار تلميذاً في المدرسة الإعدادية
 بتريم أُضيف إلى كل هذا وقتٌ للمذاكرة 
 في المساء ..
 وحتى في العطلة الصيفية كان يلتحق بالدورة الصيفية صباحاً في زاوية الفقيه ليتلقى العلم على يد شيوخ تريم الكبار
انذاك..وكل هذا يحتاج إلى جهد كبير ، وذكاء متقد،لكن جنيد كان يفعله بحب وعنفوان.. 
وفي مكتبة البيت العامرة، بأمهات الكتب والمخطوطات أخذ جنيد يقرأ الدواوين الشعريةوالمعلقات والمقامات الأدبية.. هناكان لوالده محمد الجنيد، دوره وأثره ليتعلق بهذه العوالم المثيرةوالمدهشة.
فقد كان مُعلمه الأول في تهجي اللغة،
وفي حُب الشعر والأدب .                                               5
 ذات يوم ، جاء ابوبكر سالم بلفقيه إلى بيت صديقه في تريم الشاعر الغنائي المعروف علوي بن شهاب ، خال جنيد .
الإشارات تأتي بدون موعد.. 
هل كان مُقدراً أن يأتي ابوبكر سالم في ذلك اليوم إلى بيت خال جنيد ..؟
أحضر الخال تنكة عسل دوعني أصلي ، والعسل الدوعني لايُضاهيه أي عسل في الدُنيا ،إنه هدية الرؤساء للملوك والأمراء، وهديةلكل عزيز .وهل هناك من هو أغلى من ابوبكر ؟!
 أخذ الخال يوزع من تنكة العسل تلك على بلفقيه وبعض الأصدقاءالحاضرين
.كان جنيد وبقية الأطفال الموجودين يرمقون العسل ولعابهم يسيل ..ابوبكر برِقة الفنان وعاطفته أدرك مايجول في نفوس الصغار. نظر إليهم وقال لهم وهو يدعوهم :
  - كل واحد يأخذ ملء أصبعه عسل ..
  تقدم الصغار بالدور، وكل واحد منهم غمس أصبعه الصغيرة ،السبابة، في تنكة العسل ، واخذ قدر ما يسمح به اصبع صبي صغير ، وأخذ يتلذذ بلحسه! 
إلاّجنيد، عندما جاء دوره، غمس أصابعه الخمس كلها في التنكة، فمسكه ابوبكر سالم من يده، واستل ضحكة جميلة نورت شدقيه ، ولفت إلى خال جنيد وقال له : 
 - ابن اختك هذا يحب الحلو جم ..!
 واكمل : 
  - سيكون له مُستقبل مع كل شيء حلوووو.
 فعلق الخال بزهو وافتخار:
 - طالع لأخواله ...
  ضحكوا ، وتركوهم يتلذذون بالعسل ،،.
يستعيد جنيد تلك اللحظات وكأنها الآن،
 لحظتها كان طفلا بين السادسة او السابعة من عمره فلم يستوعب نبؤة ابوبكر ، لكنها لم تفارق مخيلته، وأخذت تتضح شيئا فشيئا حتى ادركها جنيد . يعلق جنيد : "مازلت إلى الآن اتذوق حلاوة ذلك العسل في الشعر والحياة ..."
                        6
 عندما زار ابوبكرعدن بعد سنوات من الغياب والاغتراب لحضور زواج إبنته  سنة 1982م ،التقى به جنيد ضمن من التقى به من الأهل ، مرت سنوات من غيابه، منذ راءهم آخر مرة(العيال كبرت )فلم يعرف احداًمنهم فسألهم وهو يتفرس في ملامح وجوههم : 
  - ياشباب كبرتم عرفونا بكم ..
وعندما عرفه جنيد بنفسه ، قال ابوبكر:
  -  والله كبرت ياجنيد ..سبحان الله بالضبط تحمل ملامح ابوك..
و ذكره جنيد بقصة العسل في بيت خاله،  مر زمن طويل على ذلك ، لكن ابوبكر تذكرالطفل الصغير،واصابعه الخمس المغموسة في تنكةالعسل .. تذكر نبؤته بأن مستقبلاً كبيراً ينتظره، وهاهو يراها أمامه وقد تحققت ، وعلق :
 - اليوم معك عسل ثاني في عدن..!
 وطبعاً هل هناك ماهو احلى من عسل الِشعر والشهرة...وهل مثل بلفقيه يُسأل وقد ذاق من حلاوته في الشعر والغناء والحياة!
                        7
جنيد وابوبكر بينهما صِلة قرابة وثيقة جداً،فجدهما المشترك هو الشاعر الكبير أبوبكربن شهاب،صاحب القصيدة الشهيرةجداً(بُشراك هذا)التي يغنيها ابوبكر،ويغنيها الفنان الكبير محمد جمعة خان بلحن مُختلف. بن شهاب هو جد جنيد لأمه، وايضاجد ابوبكر  لأمه،  وفي نفس الوقت جد ابوبكر لأبيه زين بن حسن بلفقيه جد أم جنيد .
                        
 كانت العلاقة حميمية بين ابوبكر وخال جنيد الشاعر الغنائي المعروف ،وله أغاني شهيرة جداً يغنيها له ابوبكر منها (نسم القلب) و(ألطف بعبدك ربنا يالطيف) و(ذا فصل )، وكان خاله هذا من أصدقاءأبي بكر المقربين.وعندمايأتي من عدن إلى تريم لزيارة الأهل ، يحرص أن يأتي إلى بيت اخوال جنيد الذي ولدبه. 
خال الجنيد ،كان يملك سيارة"لاندروفر" 
في وقت كانت تندر فيه السيارات في تريم .وكان يأخذ بلفقيه عندما يزور تريم آتياً من عدن في السيارة إلى نزهة في أرياف تريم وإلى قسم والخون والسوم حيث شروحات البدو..ويصحب إبن أخته جنيد وبقيةالصغار معه في السيارة..
 والناس كلما مروا في الشوارع  تهتف عندما تشاهد بلفقيه وتصيح: "ياورد ..ياورد .." وكان بلفقيه اشتهر بأغنية( ياورد محلا جمالك بين الورود .. ياورد) التي سجلها لإذاعة عدن سنة 1956م،  بعد ان سافر من تريم وصارت علامة عليه وللفترة العدنية المبكرة من أغانيه التي اطلقت شهرته.
.وكانت عدن بمثابة القاهرة وبيروت في تلك السنوات من خمسينيات القرن العشرين الماضي، من المدن التي تصنع النجوم وتطلق شهرتهم خاصة بالنسبة للجنوب واليمن .
                       
                        8                   
مر جنيد الجنيد بعدة مراحل من التطور في مسيرته الشعرية، وكل مرحلة لها بيئتها وخصائصها وظروفها المختلفة، 
 ، ورائحتها، والآثار التي تضيفها إلى مفرداته ، وصوره الشعرية، وتصوراته عن الكون والحياة  والاماكن والأحداث.  وكل قصيدة لها القها الخاص ، وعطرها، ولحظتها، وحتى اسئلتها التي لاتتوقف ..
● مدرسة الاخوة،أثرت كثيراًفي تشكيله الأولي وحب الحياة والأدب. وكان في المدرسة مدرسون لهم ذوق شعري، غرسوا فيه حب الشعر والقائه في حفلات المدرسة..بل والمساعدة في وضع لحن للأناشيد والقصائد، وكان الدور الرئيس للأستاذ الشاعرحسن بن زين بلفقيه عم الفنان أبوبكر سالم بلفقيه، وتشجيعه..وايضاً الاشتراك في تحرير المجلة الحائطية..
كان التعليم يخضع لمنهج "بخت الرضا" 
 في السودان ،والامتحان للشهادة يأتي من السودان وبمراقبة المدرسين السودانيين..وكان جنيد الجنيد من العشرة الأوائل في امتحان الشهادة 
 الابتدائية في السلطنة الكثيرية. وفي حفل آخر العام كل سنة في المدرسة يتلقى جائزة لتفوقه وكان ذلك يسعده.     ● في الإعدادية، كان يخط المجلة الحائطيةكاملة ، كانت البدايات لطفل يلتمس الطريق إلى الكتابة والتعبير عنها بمايتراكم من مشاعر وأحاسيس طفولته، في مرعى شعر يقفز فوق اعشابهالخضر، وشكلت داخله نفسا وأهازيج.
  وفي الإعدادية ايضا،بدأ إفتتانه بالكلمة، وتشبع بالموسيقى والأغاني، فكانت احد مداخله إلى الغناء والشعر ، ربما ساعدته البيئة على التشبع بالإيقاع ، كجمالية في الشعر وبالذات الأغنية. 

 ● المرحلة الثانوية في ثانوية سيئون، احدثت تحولا ًفي مساره الشعري، حيث التقى بزملاء دراسة ممن لهم اهتمامات بالشعر والأدب،  سبقوه وكانوا على مشارف التخرج، فشارك في الكتابة في الصحيفة الحائطية بتشجيع من صديق عمره الناقد عبدالمطلب جبر رحمه الله، وهي علاقة صداقة استمرت حتى وفاته.    وكانت المجلة الحائطية تمتلىء بكتاباتهم وشعرهم؛ فكانت له مشاركاته فيها . وكان يحصد المركز الأول في المسابقات التي تجريها المدرسة ويشرف عليها مدرسون عراقيون وسوريون برئاسة الأستاذ الأديب حسن بن عبدالرحمن عبيد اللاه السقاف، واعطاه مزيدا من التعلق بالكتابة .في تلك الفترة ربما كتب ديوانا أو أكثر من القصائد العمودية المٌقفاة لكنه كما يقول أهملها كلياً فيما بعد ، مع انها كانت السُلم الذي ارتقى بها نخلة الشعر !
● عدن التي انتقل إليها بعد نيل شهادة الثانوية من سيئون بتفوق في القسم العلمي عام 1974م، للدراسة الجامعية في جامعة عدن (كلية التربية ) كانت علامة فارقة في مسيرته العلمية ، وفي تجربته الشعرية. 
عدن جميلة،ذات صبغة حداثية، لها سحرها الخاص ، مدينة منفتحة على كل جديد ، كان من الطبيعي أن تحدث خلخلة داخله، -هكذا يصفها جنيد وعلاقته بها ..-ولم يكن تقبل ذلك بالأمر السهل عليه ، لكن كانت فرصة جميلة ليتنفس هواءا آخر،ويتوغل فيها ويخترقها، في محاولة لفهم الواقع واستيعاب مايجري حوله.استهوته عدن ، وتفاعل مع الحياة بها ، وجذبته مغريات جمالها الإبداعي ، حتى انه يرى أن اي شاعر لم يمر بعدن ولم يتمدد بشواطئها لاتكتمل قصيدته .
 و"عدن كانت بؤرة إشعاع ثقافي ساطع لاحدود لها،ونقطة لقاءالكثيرمن المثقفين من الأدباء والشعراء العرب وغير العرب في السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين الماضي .
  عندماوصل عدن منتصف السبعينيات والتحق بكلية التربية نواة جامعة عدن ، كانت الكلية تضج بالفعاليات ، وعدن كلها شعلة ثقافية ، منفتحة ثقافياً على عوالم كثيرة، كان فيها ادباء وشعراء عرب من أصحاب الثقافة العاليةوالتجارب العميقة اثروا المشهد الثقافي في عدن ، طبعاً إلى جانب شعرائها ومثقفيها الكبار.
 هنا سيلتقي بثلة من الشعراء والمثقفين السودانيين الذين قدموا له التشجيع والتوجيه..أستاذه الشاعر الكبير الدكتور تاج السر الحسن ، إلا أنه غادر عدن فجأة، لكن وجود الدكتور الشاعر مبارك الخليفة سيخفف من هذا الغياب للأول. ..وخلال ذلك أخذ في تطوير ادواته الفنية في الشعر.لكن القدر سيقدم له مفاجأة كبيرة أحدثت تغييراً كبيراً في حياته .
                        9
 ذات صباحية شعرية في كليةالتربية،
سيلتقي بالشاعرالسوداني الكبيرالدكتور
جيلي عبدالرحمن ، وبشعراء آخرين كبار شاركوا في تلك الصباحية.
الشاعر العراقي سعدي يوسف ، والشاعر الفلسطيني أحمد دحبور، والشاعرالدكتور سالم بكير، والشاعرين الأخوين زكي وفريد بركات ، وقدم الصباحية صديقه الناقد عبدالمطلب جبر الذي أشرك جنيد بقصيدتين .
 مُباشرة بعد انتهاء الفعالية إذ بالدكتور جيلي يحتضنه منبهراً ويهنئه، وسعدي يوسف ودحبور يصفانه بجميل الكلام، في هذه اللحظات احس جنيد بأن هناك يداً تمتد إليه وتحتضن موهبته. للدكتور جيلي عبدالرحمن دور كبير في توجيهه، واثر بالغ في تطوره. وفي تعريفه بشعراء عرب كبار. وقد نشر قصائده في مجلات عربية منها الآداب البيروتية،  واللوتس ، وأدب ونقد ، وغيرها . كان جنيد خجولأً في النشر لكن كما يقول "ورطني في النشر د. جيلي عبدالرحمن واحمد سالم الحنكي ..وفاجأوني بنشر قصائدي في صحيفة 14اكتوبر" .
   كان في اعماقه شيء من حضرموت ، ليس قليلاً،بل كثير ، وهي التي أعطته بسخاء لغته الشعرية التي يكتب بها . جيلي عبدالرحمن أول من صرح له بذلك : لولا ماعشت تكوينك الأول في حضرموت لما امتلكت الأداة الشعرية ..ولهذا أنت متجاوز الكثير.. 
 ●  والشاعر العراقي الكبير سعدي يوسف في أول زيارة إلى عدن سنة 1981م عندما سمع نصوصه قال له : 
- انت تكتب بتقنية متقدمة في الشعر، وتملك الأدوات الشعرية ..
 وفي مرة تالية سأله سعدي : 
 - انت البيان لديك قوي ..فمن أين لك هذا ..
 لكن سعدي بمجرد ان عرف انه من تريم حتى قال له : 
 - خلاص عرفت الإجابة ..
 ويذكرني هذا بما قاله لي سعدي يوسف حين قدمت له قصتي " لاتقتلوني ..أنا آخر نخلة " التي نشرها في مجلة ( المسار) اول مرة أشعر بأني اقرأ قصة منذ جئت إلى عدن . ويبدو انها كانت نبؤة فقد اغتالوا النخلة !!
وعن رأيه في شعر جنيد الجنيد قياساً إلى زملائه من الشعراء الشباب يقول سعدي :
  "الشاعر الجنيد أجودكم في استخدام عروض الخليل بن أحمد الفراهيدي .." كما ذكر ذلك زميله الشاعر نجيب مقبل في مقاله ( سعدي يوسف العدني ) العدد 20 مجلة( الفنار الثقافي ) يونيو 2023م
 جنيد ، استفاد أيضاً كثيراً من ملاحظات وتوجيهات سعدي يوسف خلال جلساته الكثيرة معه ، وكان له دوره بالتوجيه والمشاركة والإشراف على إصدار ديوانه الأول(اكليل لأمراة قتبانية) عام 1984.
                       10
● المرحلة الثالثة التي احدثت تحولاً في مسيرته الشعرية ، كان عندما سافر إلى بلغاريا للالتحاق بجامعة صوفيا ، بعد أن حصل على البكالوريوس في كلية التربية بجامعة عدن في الرياضيات والفيزياء سنة1981م .
 صوفيا عاصمة بلغاريا ومركز الثقافة 
والصناعة ، وبها اكثر من 16 جامعة حكومية لكن جامعة صوفيا التي تأسست سنة 1888تظل اهم وأفضل جامعة بلغارية.وفي صوفيا العديد من دور النشر والمراكز الثقافية.
 يقول جنيد عن تجربته البلغارية او في بلغاريا : " بالتأكيد يؤدي المكان دورا مهما ويترك اثره في العمل الإبداعي، في صوفيا قضيت خمس سنوات للدراسة العليا كانت حصيلتها الدكتوراة من جامعة صوفيا عام 1991 في مناهج وطرائق تدريس الرياضيات  .
ومن ناحية أخرى، بلغاريا كانت محطة للتأمل والالتقاء بثقافة جديدة ومجتمع جديد ، والإقتراب من الأشياء أكثر،  ورؤية العالم بصورة أوسع، وتكوين صداقات جديدة مع المثقفين العرب وغير العرب ، الدارسين من العراق وسوريا ولبنان ومصر والسودان والمغرب . وايضاً، مع الأدباء البلغار، وبالأخص المستشرقين منهم . فرصة للتعرف على شعراء بلغاريا ، فقرأ للشاعر البلغاري الثائر خرستو بوثيف ، ( 1848- 1876) وهو اكثرشاعر مقروء ، واحبهم إلى قلوب البلغار ، اديب مناضل ويعد من أهم رموز الكفاح البلغاري في السبيعنيات من القرن التاسع عشر . والشاعر نيكولا فابتزارف الذي يحبه البلغار ، واعجبه شعر بيويافروف الذي زار متحفه وتعرف على حياته ، كذلك أعجبه شعر بيتيا دوباروفا المشبع بالغناء ولها ديوان واحد ( انا والبحر ) وفارقت الحياة منتحرة في سن مبكرة..
 وفي بلغاريا تعرف على الشاعر  الكبير سميح القاسم ،  ونشات بينهما صداقة،وسافر منها إلى عدة بلدان أوربية وعربية ، وتلقى دعوات للمشاركة مهرجانات ادبية في العراق وسوريا والامارات وليبيا،والتقى بكبار الشعراء.
 وفي بلغاريا كتب قصائد كثيرة ضمنها ديوانه ( حوارية طائر الرماد ).
                       11
 جلس جنيد يستمع إلى الشاعر العربي الكبير محمود درويش عند قدومه إلى عدن سنة 1982، وهو يلقي مجموعة من قصائده، ومنها قصيدته " سنة أخرى فقط " .
 بعد انتهاء الفعالية التي أقيمت على شرفه في كلية التربية وقدمها الدكتور جيلي عبدالرحمن ،سأله درويش :
 - لمٌ هذا الغياب الشعري الطويل ياجيلي ؟ ..افتقدنا قصائدك. 
 أجابه جيلي : 
 - لدي ديوانان جديدان هما هذان الشاعران .
 وأشار إلى جنيد ، وإلى صديقه الشاعر محمد حسين هيثم .
  اسعد هذا التقديم جنيد ، واعطاه دفعة أُخرى إلى عالم الشعر .
 كانت فرصة لأن اسأل جنيد حول صحة مايقال أن شاعرية درويش تحوم حول بعض نصوصه ، وانه يحاول ان يتحرر من اسره ، فكان جوابه :
 -  "درويش شاعر كبير..وهو أيضاً تأثر بمن سبقه وكان ديوانه الأول " عصافير بلا اجنحة" نسخة لنزار قباني..وهذا شيء طبيعي..
درويش مدرسة شعرية وتأثيره كان طاغياً على كل الشعراء ليس في عدن وإنما كان على اغلب الشعراء الشباب العرب ..وهذا مايلحظه الكثير . حتى قيل لدرويش انك وقفت حائطاًضد الشعراء الشباب..وهذا شيء طبيعي ان يتأثر به الشباب في بداياتهم..لا انكر اني واحد من الذين تأثروا به وسبق أن تأثرت بنزار أيضاً.. ولكني بقراءات مكثفة لشعراء عرب وغير عرب عبر الترجمة و قراءات في كتب الأدب اتخذت لي مساري.. ويظهر ذلك فيما اكتبه من شعر..
أن اي شاعر  نتاج شعره هو حصيلة لما بداخله ،فداخل كل شاعر الف شاعر سبقه".
                        12
   ولأول مرة حاول جنيد أن يكون شاعرا غنائياً،رغم انه كتب قصائد غنائية كثيرة بالعامية لم يغن منها إلا القليل جدا..        كتب الأغنية في البداية عندما لم يكن هناك شيء يعينه غيرهذه البداية لولادة شعرية لا يستطيع التعبير عنها الا بالأدوات التي يمتلكها ..وهي الكلمات البسيطة الدارجة لان ثروته بها اكثر ،ولا يملك من الفصحى الا اليسير..
 يقول جنيد :
"لم أكن افكر بالشهرة في ذلك لتحقيق جماهيرية..ولكنها بدايات ساعدتني في أن اكتب كلمات متموسقة .وكانت تهيئة لكتابة الفصحى على إيقاع الموسيقى.. بداية كتابتي للأغنية لم أكن افكرباعطائها
 أي فنان ولكن للمصادفة أن أحد زملائي في الدراسة يجيد الإيقاع ويشارك مع الفنانين، وقد اطلع على مااكتبه فأخذه مني واعطاه الفنان والملحن حسن صالح باحشوان في تريم. باحشوان قام بتلحين
 الأغنية دون أن يعرفني أو يلتقي بي . وبعد ذلك تعرف علي.. وظل يلح علي بأن ازوده بما أكتب،وبسبب الالحاح، أعطيته بعضاً منه. والكثير الآن لدي لم يلحن..ثم اني بعد أن سافرت من تريم صرت مقلاً في كتابة الأغنية واتجهت إلى قصيدةالفصحى..
..كثير من الفنانين أقابلهم ويطلبون مني اغاني وأوعدهم ولكني كسول في اعطائهم ..
                        13
  سألت جنيد :
 - ابوبكر سالم فنان كبير ، وانت شاعر كبير وبينكما صلة قرابة ، ألم تحاول ولامرة أن يغني قصيدة لك ؟
 قال :
- حتى أبوبكر حين قابلته في كل المرات .. فقط حديثنا كان يتركز في الذكريات والحديث عن تريم والأهل وهومايفضله
..ولم نتحدث فيما اكتبه او اقرأ له شيئاً من الأغاني..نعم في جلسة سمع مني قصائد بالفصحى، وكان يحب الشعر الفصيح كثيراً وايضاً شعر الحداثة..ومرة عرض لنا فيديو للشاعرة العراقية لميعة عباس عمارة . لكني اهديته دواويني ..
طبعاً ..
                     14
  المكان: المُكلا ، القصر الجمهوري .
 الزمان : 2005
 دعا الرئيس علي عبد الله صالح لجلسة كبيرة  الأدباءوالشعراء والفنانين، منهم عبدالرب ادريس وبلفقيه الذي اعتذرعن الحضور.. وكان جنيد بين المدعوين..
 يستعيد جنيد ماحدث في ذلك اليوم :
" في الجلسة احرجني الشاعر عباس الديلمي وقال لعفاش:
 - لدينا اليوم أشهر الشعراء الحضارم وهو الجنيد فطلب عفاش أن القي قصيدة ولأني لا أحب ان أن القي شعراً أمامه رفضت ..فزعل مني الرئيس ..
واسرها في نفسه .
..وقال لي د.سعيد الجريري ود.باعيسى :  - وقعت في موقف صعب ولكنك كنتَ شجاعاً ..
 في المساء اتصل بي صديقي د.صالح باصرة وقال لي :لماذا زعلت الرئيس؟..
قلت له : لا امدح الحاكم! هكذا طبعي. وإنما ممكن أنصحه، ومثله لا يقبل النصيحة من طرف على نقيض له..
  قال باصرة: حدثني عنك وقال انه اهدى زملاءك الأدباء من خمسمائة الف ريال وانت لم يعطك شيئاً.. 
 واضاف باصرة : ضحكت وقلت له الجنيد لديه من المال مايغنيه عنك..
 قال الرئيس : جيبه للمؤتمر الشعبي وله مايشاء من المواقع .!
تصور أغراني باصرة بنائب وزير ورفضت نهائياً..وظل لأيام يراودني باصرة الا اني رفضت ..
وفي النهاية أعطى علي عبدالله صالح أوامره بابعادي من قيادة الأمانة العامة لاتحاد الادباء والكتاب اليمنيين ،وكانت تلك الأيام فترة انتخابات..وجلس معي باصرة و عبدالعزيز بن حبتور وعارف الزوكا واخذوا يغروني بمنصب ..الا اني رفضت ..وفعلاً تم التآمر علي وإبعادي من الأمانة العامة.."
                       15
 سألت جنيد :
  انت شاعر كبير باعتراف الجميع، شعراء ونقاد وجمهور .. هل تشعر أن تواضع الحضرمي ، والخجل الذي هو طبع أصيل فيك ، حدا من الشهرة التي يستحقها شاعر كبير بحجم الجنيد ؟
 أجاب الجنيد :
- ربماذلك..ولكن الحمد لله كان صوتي الشعري في السبعينات والثمانيات مع جيلي معروفاً ومنتشراً في الصحافة ومع الأدباء العرب..في التسعينات وما بعدها تمت محاصرتي من قبل السلطة ليس في الشعر ولكن حتى في الوظيفة،بعد
حصولي على الدكتوراه لم يرتب وضعي، وتم منعي من التوظيف في صنعاءوقد بذل الأستاذ عمر الجاوي جُهداً في ذلك بلا فائدة..الا ان رئيس جامعة عدن أ.د.محمد العمودي بعد أن اطلع على أوراقي استوعبني في جامعةعدن .
                     16
 واصل النظام استخدام سياسة العصا ضد الشاعر جنيد الجنيد ، عندما لم تنفع  معه سياسة الجزرة. منع من أي مشاركة في أي فعاليات .وتم شطب اسمه من التكريم في عام الثقافة عام 2004 وبعض الزملاء يعرفون ذلك. مُنع من السفر مع أي وفد لوزارة الثقافةللخارج
..مُنع من المُشاركة في احتفالات مسقط رأسه تريم عاصمةللثقافةالاسلامية 2010م الذي اقرته المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة " الايسكوا " .حتى أن أحد النُقاد في صنعاء في الثمانينات كان يبشر بشعره وكتب عنه شيئاً جميلاً، صار يتجنب الكتابة أو الإشارة إليه. لكن جنيد بجهده الذاتي 
 وبتوفيق من الله استطاع ان يكسر طوق العزلة الذي حاول النظام فرضه عليه رغم ذلك و الخروج قليلاً ..فشارك في ملتقيات عربية في الكويت ومصر وسوريا والإمارات وليبيا ولاقى تفاعلاً وإشادة من الأخوة الأدباء العرب ..
                     17                     
  جنيد شاعرٌ صلب وعنيد خاصة عندما يتعلق الأمر بالمواقف.. لم يشأ أن يفوت الفرصة دون أن يوجه رسالة تحسس النظام وراسه بوجوده حتى لو منع من المُشاركة في احتفالية تقام في مدينته ومسقط رأسه تريم ويقول( انا هنا )..
يوم افتتاح "تريم عاصمة للثقافة الاسلامية" نشر في صحيفة "الثورة " في صنعاء- شبه الرسمية- قصيدة  "ابتهالات المنازل الأولى " وهي قصيدة عموديةمقفاة من 84 بيتا"، مما جعل كثيراً من مثقفي الشمال يتواصلون بجنيد ومنهم احمد ناجي احمد مستغربين عدم حضوره إلى تريم وكلموا وزير الثقافة حينها ، فقال :هناك زحمة في السكن فلم ندعوه..عذر أقبح من ذنب.!! ..
  علق جنيد على كلام الوزير قائلاً:
 -هل انا بحاجة الى سكن في تريم وبيتنا هناك ووالدي كان على قيد الحياة..
 (توفي والد جنيد عام 2017..ودايما ظل يزوره ) وفي تعليق آخر ساخر قال : 
 - وزارة الثقافة استدعت ادباء وشعراء من يريم وتركت شعراء تريم !! 
                       18
اصدر جنيد محمد الجنيد ست مجموعات
 شعرية حتى الآن هي :
● اكليل لإمرأة قتبانية سنة 1984م
● أعراس الجذور سنة 2000
● حوارية طائر الرماد 2003
● تأوهات للأمير السبئي 2004
● منمنمات حضرموت 2013
● دمون تبكي امرأ القيس 2021
  ويعد للطباعة ديوانين جديدين هما :
● على إيقاع الأغاني( شعر غنائي)
● في مراعي الناي اقطف قافيتي .
 وبداخله عناوين متفرعة : 
 - حفيد الرعاة الندامى 
 - خلوة.. غفوة.. جذوة
 - لهذه الشجرة طقسها الخاص 
 - ابعد جداً.. أقرب جدا
 الديوان اغلب قصائده لم تنشر ، ويحتوي على نحو اربعين قصيدة .