القاهرة جميلة، ويمكنك أن ترى أجمل مافيها،النيل،والليل، والأهرامات،والمسرح، والسينما، والاوبرا،وتفتح عينيك على التفاصيل للحياة اليوميةالمدهشة..
والصحف،والكتب التي تشم فيها حبر المطابع. مااجمل ان تقبض على هذه اللحظةمع حفنةمن ماء النيل العذبة تشربهالتعود إليها..لا أظن أن هناك مدينة تجمع كل هذا القدرمن تفاصيل الحضارات
المتعاقبة:الفرعونية،والاغريقيةوالرومانيةوالقبطية والإسلامية، وكلها تركت إرثا هائلاً من الحضارة والعمران والعلوم والفنون فاستحقت مصر أن تكون" أم الدنيا"،،مُلتقى الثقافات والأديان والجنسيات من كل مكان، ومقصد الساعين للنجاح والشهرة.بطريقة
أوأخرى نحن أبناءالثقافةالمصرية والأدب والفن المصري .
                       □
 القاهرة،، منتصف ستينيات القرن العشرين الماضي ..
قادمين من عدن ،التقيا.أحمد قاسم،وفريد بركات.الأول مسكون بالموسيقى والغناء، والثاني بالشعر والثقافة،لكن لم تكن له شهرة أحمد قاسم بعد.والإثنان لاينقصهما الذكاء ولا النباهة، ولا الصراحة .تعارفا من غير موعد.كان احمد قاسم قد قطع شوطاً في عالم الشهرةويسعى لتحقيق المزيد من العاصمة العربية التي تصنع وتطلق النجوم ،وفريد بركات في أول المشوار..طالب في كلية الآداب ويقرض الشعر.طلب أحمد قاسم من صديقه الذي تعرّف إليه في القاهرة في واحدة من زياراته،قادماًإليها من عدن،أن يرافقه إلى مبنى الإذاعة المصرية لتسجيل إحدى أغانيه، لأنه لايريد أن يذهب وحده. سعد فريد بهذه الدعوة ورافق صديقه. 
                         2
 في الطريق إلى إذاعة القاهرة في شارع الشريفين، في وسط العاصمة المصرية ،  او "وسط البلد"، كما يحب ان يسميه المصريون ،كانا يسيران في مشهد يجمع بين الرقي والفخامة وعبق التاريخ ، تطل عليهما شوارع وبنايات القاهرة الخديوية التي أسسها الخديو إسماعيل سنة1870، في قلب منطقة البورصة، التي تعد أحد أبرز المناطق بوسط البلد،وأجملهامعماراً ،والتي تأسست طبقاًلرؤيةالخديوي إسماعيل الذي حكم مصر من 1863إلى 1879،المستوحاة من برنامج التطوير العمراني لبارون هوسمان لمدينةباريس.
وكان الخديوي إسماعيل قد قرر تحويل الوجه العمراني لوسط اوقلب القاهرة إلى لوحة فنية تعكس التراث الحضاري للعاصمة المصرية،والآن كانت بعماراتها وجمالهاتضاهي أجمل الشوارع والعمارات في أوربا،واستحقت بحق في وقت من الأوقات أن يطلق عليها:"باريس الشرق ". 
                       3
 هنا يقع مبنى الإذاعة المصرية التي تأسست في31 مايو1934م،في عمارة ذات طراز معماري نادر،في 4 شارع الشريفين بمنطقة البورصة في وسط العاصمة المصرية.ومنذ ذلك الحين غدت مُلتقى المبدعين والفنانين المصريين ،والشاهد على فترة هامة من تاريخ مصر، وتاريخ الإذاعة المصرية،التي حرصت في برامجها ان تجمع،بين الفكر والفن على مدى تاريخها،وحملت لواء التنوير إلى كل الوطن العربي .
 نفس هذا المبنى العريق استقبل كوكب الشرق ام كلثوم وعبدالوهاب،وفريد الأطرش،وعبدالحليم حافظ وغيرهم من فناني العصر الذهبي للغناء، فلماذالايدخل إليه الفتى العدني الطموح، أحمد بن أحمد قاسم ويجرب حظه ويصبح واحداً من هؤلاء المشاهير؟
                        4                     
 وصل إلى دار الإذاعة ومعه صديقه  فريد بركات..أجازت اللجنة اللحن الذي وضعه أحمد قاسم ،خريج المعهد العالي للموسيقى في القاهرة،للأغنية،كماأجازت صوته قبل ذلك،لكنها في الأخير أعتذرت عن تسجيل الأغنية! 
 سألهم احمد : 
 - ليش ...؟ 
   قالوا له :
  - ماعندكش تنازل من شاعر الأغنية ..! انت فنان وتعرف حقوق الملكية الفكرية. كاد يسقط في يده ،فقد بذل كل جهده في تلحين الأغنية ،وكان يعتمد عليها في الإطلال على الجماهير من إذاعة القاهرة التي يسمعها الملايين في الوطن العربي من المُحيط إلى الخليج . 
 خرج أحمد قاسم، من عند اللجنة وهو يكاد يتمزق من الغيظ،لايعرف كيف يتصرف ! رأى فريد بركات كل ألوان الطيف على وجه أحمد قاسم ،وكان من النوع الذي لايستطيع إخفاء عصبيته في مثل هذه الحالات،لكن فريد، بمجرد أن عرف منه السبب حتى هوَّن الأمر على صديقه :  
 - ولا يهمك ياأستاذ أحمد ،،بسيطة !! 
 - كيف بسيطة ؟ يشتوا مني تنازل من نزار قباني..من فين اجيب لهم انا نزار ؟
 في التو واللحظة،أمسك فريد بالقلم والورقة،وكتب أغنيةجديدة من كلماته على نفس الوزن والقياس الشعري،وإلى جانبها تنازلاً منه لأحمد قاسم. كانت تلك مقدرة فائقة لشاب لايزال في أول مشواره الشعري. ويمكن القول ان فريد بركات ولد منذ تلك اللحظة كشاعرغنائي.  تنفس احمد قاسم الصعداء ودخل "الأستديو" وسجل الأغنيةلإذاعةالقاهرة .
 كان ذلك اول تعاون بين الشاعرفريد بركات والموسيقار أحمد قاسم،،لكنه كان تعاون الصُدفة. 
                       5  
  اختار أحمد قاسم قصيدة لنزار قباني ليبدأ بها تسجيل أولى أغانيه لإذاعة القاهرة، ليؤسس حضوره الموسيقي في مصر من خلال كلمات شاعركبير،ولحن يضع فيه مقدراته اللحنيةوالأدائية بالإستفادة من المكانة الكبيرة للشاعر السوري ، خاصة بعد الشهرة الواسعة التي حققتها قصيدته ( أيظن ) التي لحنها الموسيقار محمد عبدالوهاب وغنتها نجاةالصغيرةسنة1960،و(لاتسألوني مااسمه حبيبي)التي غنتهاله فيروز من ألحان الأخوين رحباني سنة 1963،(وماذا اقول له) التي غنتها نجاةعام 1965.ولوأن أحمد قاسم حصل حينها على تنازل من الشاعر نزار قباني عن القصيدة التي رفضت إذاعةالقاهرة تسجيلها،لكان سبق كثيرين في الوطن العربي ممن لحنوا من كلمات الشاعر العربي الكبير بعد ذلك وحققوا شهرة واسعة..   
                         6
ذات مساء قاهري ،حل نجيب السراج ضيفاً في منزل عبدالوهاب الذي دعاه على العشاء.ومنه تعرف الموسيقار محمد عبدالوهاب على شعر نزار قباني لأول مرة بعد أن غنى أمامه قصيدة (يابيتها)، التي لحنها لنزار في سنة 1952، قبل أي فنان آخر،وكان السراج قدانتقل للعيش في القاهرةسنة1960 بعد الوحدة المصريةالسورية،وسرعان مالمع اسمه في الوطن العربي كمطرب سورية الأول،وتعرف على العديد من المطربين في مصر منهم عبدالوهاب وفريدالأطرش
 وعبدالحليم حافظ ونجاةالصغيرة ومحمدفوزي ومحمدعبدالمطلب.وفي تلك السهرة أطلق عبدالوهاب على نجيب السراج لقب"عبدالوهاب سورية".كما جاء في مقال الكاتب عبدالله المدني في  "البيان" الاماراتية في 22 سبتمبر 2022م نقلاً عن صديق السراج عدنان القمباز .
 وبعد ان انتهى من أداء الأغنية سأله عبدالوهاب عن صاحب القصيدة فقال له : ( شاعر سوري لكنه مهضوم ) فكان السبب في اهتمام عبدالوهاب بشعر نزار قباني، وربما السبب الذي دفعه في أن يلحن له قصيدة (أيظن) التي غنتها نجاة الصغيرة وفاق نجاحها كل التوقعات . كما أن الفنان السوري أحمدعبدالقادر  سجل وغنى أغنية "كيف كان" لنزار سنة 1953 في الإذاعة السوريةوالمنشورة في ديوان( انت لي ) ،لكنها لم تحقق الشهرة التي حققتها قصائد نزار بعد أن لحن له محمد عبدالوهاب الذي اكتشف الحس الموسيقي لنزار، واستشعر لغة الطرب في شعره الذي قال انه" يتميز بالبساطة في اسلوبه والفاظه، وانه شعر جماهيري وصل للناس بدون غِناء، قبل أن يزيده الغناء جَمالاً ".ومنذ ذلك الحين غنى له المطربون في المشرق العربي ومغربه، ويكاد لا يوجد مُطرب كبير لم يلحن او يغني من أشعاره،
                       7
 وحده الفنان أحمد قاسم كان سيءالحظ مع الشاعر الكبير نزار قباني عندمارفضت إذاعةالقاهرة تسجيل القصيدة التي لحنها 
له لكن سوءالحظ أوالنحس لم يستمر،إذ لحن وغنى له بعد ذلك قصيدتين هما: "وشاية"، و"أنتِ لي".لكنهما لم يحققا نفس الشهرة التي حققتها الكثير من أغانيه، مثل "ياعيباه"، و"مش عيب عليك" ، و"مش مصدق" ، و"صدفة"من كلمات الشاعر الكبير لطفي جعفرأمان.
أوحققها فنانون آخرون ممن لحنوا للشاعر الكبير نزار قباني،لكن هذا لايعني عدم جودة اللحنين ، بل ربما لم يحظيا بالقدر الكافي من الترويج.ويرى الشاعر الكبير عبدالله البردوني أن اليمن لم تعرف قدر موهبة الفنان أحمد قاسم ..فهو موهبةلحنيةكُبرى وموهبة صوتية راقيةجداً.ويظن انه في القصائد التي لحنها لنزار قباني ومحمد سعيد جرادة   طوعها"لحنياًوأدائياً وكاد أن ينقلها إلى عمل آخر، هوالغناء بدلاً عن الشعر ، لهذا كانت القصيدة التي يغنيها أحمد قاسم تقرأ شعراً،ولكن تسمع غِناءاً وكأنها عمل مُختلف ". كما جاء في كتاب التأبين الذي اصدرته وزارة الثقافة اليمنية عن الموسيقار أحمد قاسم بعد وفاته في حادث مروري في أول ابريل 1993م.                               8 
  كان فريد بركات لايزال يدرس في كلية الآداب بجامعة القاهرة،بينما تخرج احمد قاسم في المعهدالعالي للموسيقى سنة 1960،وكان يتردد على زيارة مصر للإشتراك في مهرجان أضواءالقاهرة،والتقاء أصدقائه خاصة الموسيقار الكبير فريد الأطرش الذي تعرف عليه في عدن عند زيارته لهاسنة1956م.ويربط البعض بين هذا اللقاءوالتحاق أحمد قاسم بالمعهد بنفس العام ، حيث اعجب فريد بعزف أحمد قاسم على آلة العودوبصوته
،ويقولون ان فريد هو الذي سعى له في المنحة الدراسية في المعهد !
                      9
في الفيلم الذي مثله أحمد قاسم في مصر وعرض سنة1966( حبي في القاهرة ) بطولة زيزي البدراوي ،ومحمود المليجي،وعبدالمنعم إبراهيم، وتوفيق الذقن،ظهر فريد بركات في لقطة من الفيلم،في الحفل الذي يتخرج فيه أحمد قاسم من المعهد العالي للموسيقى،مما ُيشير إلى أن صداقتهما بدأت في الوقت الذي كان يحضر فيه أحمد قاسم لفيلمه (حبي في القاهرة)،أو قبلها بقليل،وهي صداقةاستمرت بعد ذلك لعقود في عدن، واثمرت تعاوناًفنياًطويلا ًبينهما،كان فيه فريد بركات الشاعر،واحمد بن احمد قاسم الموسيقار وواضع الألحان التي غناها شخصياً،أوغنتها الفنانة فتحية الصغيرة والتي حققت نجاحاًكبيراً،وسُجلت لإذاعة وتليفزيون عدن أو لاذاعات وتليفزيونات خليجية .
                       10
 ولد فريد محمد بركات في عدن في19 مارس سنة 1946م وتلقى تعليمه حتى الثانوي فيها،ثم ابتعث للدراسة في مصر، حيث نال "بكالوريوس"الآداب في جامعة القاهرة سنة 1968.وبعد عودته إلى عدن تقلد العديد من المناصب التي لها علاقة بالثقافة والإعلام مُباشرة،فكان رئيس تحرير مجلة "الثقافةالجديدة" ،التي صدرت في أغسطس 1970 من وزارة الثقافة والارشاد بجمهورية اليمن الجنوبية الشعبية، ومديرعام بوزارة الثقافة سنة1974،ثم وكيلاً لها سنة 1976م،ونائباًلوزيرالثقافةوالسياحة سنة 1977م،ومديرعام التليفزيون 1978م ونائب رئيس لجنةالدولة للإعلام لشؤون الإذاعةوالتليفزيون عام1979م،ورئيس
 مجلة ( قضايا العصر ) الفكريةالنظرية،مجلة الحزب الاشتراكي اليمني خلال السنوات 1980 - 1986م .
                      11
 لم التق فريد بركات منذ سنوات. منذ  سافرت إلى موسكو. وسائل التواصل الحديثة لم تكن قد ظهرت بعد،فلم نجد وسيلة للتواصل .  
وكنا نلتقي بصفة مستمرة في عدن ..
..لكن فريد بركات جاء في زيارة إلى موسكو منتصف سنة 1985، ففرحت كثيراً بلقاءصديق عزيز قادم من عدن .ترى فيه بعضاًمن عبق ورائحة الوطن ، وتشتاق أن تسمع منه حقيقة مايدور فيه.ولم تكن اكثرالأخبار التي ترد منه في تلك الأيام مما يسر الخاطر،أو يثلج الصدر ،بل على العكس كانت في أغلبها إن لم تكن كلها مما يكدرالنفس،ويوجع القلب .
استضفته في شقتي الواقعة في مترو ،"سوكل"، شارع "فالترا اولبريختا".كانت الشقة واسعة وجميلة، وخارج الأحياء الدبلوماسية، وبعيدة عن أعين الحراس، وأنا بطبعي اكره القيود وأي شيء يقيد حريتي .كان أصدقائي من كل الطيف ،سياسيين،وزراء،كُتاب،فنانين ،شعراء، عسكريين،وطلاب. وبالرغم من أن البعض ممن كانوا يأتون إلى موسكو،يجئون في زيارات رسمية قصيرة،إلا أنهم كانوا يجدون وقتاً لصديق. وماأجمل الأصدقاء عندما يكونون على طبيعتهم متحررين من اعباء ورداء الوظيفةوالمسؤولية..
محمود مدحي وزير المالية، وفاروق علي أحمد نائب رئيس منظمة الصحفيين، واحمد الفضلي وزير التجارة، والإعلامي عبدالرحمن خبارة مدير معهد الإعلام، ومحبوب علي مدير تحرير 14 اكتوبر، وصالح بن عزون رئيس دائرة المراسم بالخارجية،والعقيد عمر العطاس، والعقيد سليمان قيس،الضابطان في الجيش، وغيرهم ممن كانوا ضيوفي في اوقات متفاوتة،وكانوا جميعاً في حالتهم الإنسانية التي تشبههم، يضعون هموم الدنيا جانباً وإن لبعض الوقت،ويتصرفون
 
بتلقائية.صديقي الشاعر العربي الكبير سعدي يوسف الذي تعرفت إليه في عدن ،رئيس تحرير (مجلة المسار) ،خزنا معا "القات " في شقتي في إحدى ليالي موسكوالباردة،وكانت قطتي الصغيرة التي اشتريتها من سوق الطيور في موسكو"بتيتسي رونك" تلهو بعيدان القات ،كأنها تحاول اكتشاف مذاق هذا النبات العجيب ! أما في عدن فقد كانت تجمعنا شقة صديقنا المشترك الشاعر زكي عمر الذي كان يسكن في الدور الأرضي بعمارة "البس" بشارع المعلا الرئيس، قريباً من شقتي في عمارة كوريا موريا..
وكان في شقتي متسعاً لصديقي غائب طعمة فرمان،وصديقنا المشترك الدكتور سعود الناصري الذي عرفني بالروائي العراقي الكبير،وكانا يأتيان معاًويغادران في نفس الوقت، لأنهما يسكنان في مجمع سكني واحد بعيد من شقتي .وكانا يتحدثان بلهجتهما العراقيةبشوق ولوعة عن بغداد التي لم يرياها مُنذ سنوات !
و الفنان محمد عبده زيدي، عزف طويلاً  وغنى بصوته العذب مع الفنانة كفى عراقي عندماحلا ضيفين عندي لعدة ايام،بعدعودتهما من رحلة فنيةمن "بيونغ يانغ" سنة 1983،،وسجلا لي على أشرطة "كاسيت" بعض أغانيهما التي احتفظت بها لسنوات قبل ان تعطب بسبب عوامل الزمن والرطوبة. والصديق عبدالله عمر باخوار الذي كان يحضر الدكتوراة في علوم الزراعة ، زميل الطفولة في الديس الشرقية،وجاري في المعلا ،كان ضيفاً شبه دائم في شقتي. وكان من بين ضيوفي أشقاء من الحزب الشيوعي السوداني كانوا يأتون خصيصاً للإستماع إلى حفلات محمد وردي المسجلة في أشرطة فيديو عندما زار عدن وغيرهم كثيرررون. وجود أصدقاء
 معك في ظل غياب أسرتك يعطيك شعوراً بأنك لست وحدك ، وأن الحياة مستمرة.                      
                          12
تحدثنا بصراحة أنا وفريد عن أوضاع عدن التي كانت على صفيح ساخن ، بعد اشتدادالخلافات والصراعات بين جناحين في الحزب الحاكم،وكانت زيارات المسؤولين من الطرفين تترى إلى موسكو في محاولة لرأب الصدع الذي كان يتسع، والبحث عن طريقة لحل الخلاف بالطرق السلمية.بعض هذه  الوفود كانت تُقابل الأمين العام السابق للحزب عبدالفتاح اسماعيل المقيم في موسكو مُنذ الاطاحة به في ابريل1980  .البعض ِسراً،والبعض علانيةً. البعض بقصد إظهار تأييدهم له، والنفخ في "كير البلاء"كمايقال..والبعض بقصد إقناعه  بخفض وتيرةالتوتر، وإلغاء العودة التي كان يصر عليها ،أو على الأقل تأجيلها، ويرون فيها انها ستكون سبباً في إشعال الصراع. وكان فريد بركات من هذاالبعض الأخير الذي يأمل خيراً في جدوى هذه المحاولات. اتصل بعبدالفتاح من شقتي، لثقته بي ،وحتى لايتسرب لقاؤه به ،فيفسر على هوى"المغرضين" وكتاب التقارير في وقت حساس كالذي كان يشهده البلد !
 لم يكن التلفون المحمول قد ظهر بعد ، فتكلم معه من تلفوني الأرضي، وبعد أن حدد له موعداً للقاء ، تكلمت معه للسلام عليه. كان الأمين العام السابق يعرفني إلى حد ما. على الأقل كنت أدين له بوظيفتي في صحيفة (الثوري) نهاية العام 1969.وكان على علم بأنني الملحق الإعلامي بالسفارة في موسكو،إذ كان مُرافقه وطباخه الخاص ناصر يأتي مرة على الأقل في الأسبوع إلى مكتبي في السفارة،ويأخذ له نسخة من الصحف التي تأتي من عدن،وربما يتذكر انني سافرت معه مرتين بصفتي مدير تحرير صحيفة 14اكتوبر،عندماكان الأمين العام.
مرةإلى الصومال في عهد رئيسه الجنرال محمد سيد بري.ومرة إلى الجزائرلحضور القمة الثانية لدول جبهة الصمودوالتصدي
 التي تشكلت بعدزيارةالرئيس السادات لإسرائيل، من سورية،والجزائر،وليبيا،واليمن الديمقراطية،ومنظمة التحرير
الفلسطينية. خلال حديثي القصير معه،  اكتشفت أنه كان يتابع إنتاجي القصصي،إذ أبدى إعجابه بقصة قصيرة نشرت لي في إحدى الدوريات بعنوان : (البحر هو البحر ). وتحكي عن قروي ساذج نزل عدن ورأى البحر لأول مرة،فحذره أصحابه أن البحر سيبتلعه إذا لم ينهق، فأخذ ينهق ، بينما أصحابه يضحكون على سذاجته !!
                       13
 بعد أن قابل فريد بركات عبدالفتاح استنتج أن لافائدة..وأن الانفجار قادم ..قادم لامفر منه...! لكن لا فريد ولاغيره كان بوسعه حينها أن يتنبأ بحجم الكارثة ولابموعدها،الذي لم يتأخر كثيراً بالرغم من أجواء التفاؤل الذي اشاعه المؤتمر العام الثالث للحزب الذي عقد في عدن في أكتوبر 1985م وحضره عبدالفتاح، بتقاسم السلطةبين الفريقين المتصارعين. لكنه لم يكن غير الهدوء الذي يسبق العاصفة كما يقال !
                       □ 
 اذكر انني قلت لفريد بركات ونحن نتمشى عل ضفاف نهر"مسكفا"بعد عودته من لقاء عبدالفتاح إسماعيل:
 - ماذا الآن ... ؟
قال : 
 - سأعود إلى عدن طبعاً..
 سألته مُستغرباً :
 - رغم كل ماقلته لي،بأن الإنفجار قادم، لامحالة،وأن الأيادي على الزِناد،شخصياً
رأيتُ ذلك عندما كنتُ في عدن قبل أشهر قليلة للتعزية في وفاة ابي ..
 أجابني : 
 - لستُ من النوع الذي يهرب من قدره يامحمد..وانت كنتَ شاهداً على ماجرى  لي في الأيام السبع سنة 1972،لقد كان بيني وبين الموت خطوة..الهروب لايليق بالشعر ولا بالشاعر ..
 بصراحة استغربت ذلك الجواب من صديقي فريد الذي اعرف كم يحب الحياةويتمسك بها،ويعرف كل أصدقائه انه يحمل معه جهاز قياس الضغط في حقيبته دائما،ويقيس ضغطه قبل تناول القات، واثناءه وبعده عدة مرات،منذ أصيب بأول نوبة قلبية قبل سنوات !!
 من أين له هذه القوة ؟ من أين ؟ قلت لفريد : اعرف ياصديقي اعرف ،لكن ماذا ستفعل في مدينة ينتظرك فيها الموت كل لحظة،ليس الموت،بل القتل، ودورات الدم تتجدد فيها كل عدة سنوات ! يبدو ياصديقي أننا لسنا في المكان المناسب !!
على الأقل أجِلْ عودتك ريثما تتضح الأُمور.حاول أن تطمئن على قلبك وتجري بعض الفُحوصات في المستشفى الدبلوماسي ..الإمكانيات الطبية عندهم ممتازة.مارأيك لو اكلم عبدالله الحنكي القائم بالأعمال وهو صديقك ايضاً،لإجراء الترتيبات. لكنه قال لي :
 - انا بخير ،وسأعود إلى عدن .
                        14   
 تذكرت عندما زار الشاعر الكبير محمود درويش عدن سنة 1982، بعد خروجه من الأرض المحتلة بسنوات .وكان البعض،ليس البعض،بل كثيرون يلومون درويش على ذلك،ويستشهدون بقصيدته الشهيرة:( آه ياجُرحي المُكابر ..وطني ليس حقيبة وانا لستُ مسافر ..أنا العاشق ، والأرض حبيبة)،وكان فريد مرافقه في زيارته التاريخية تلك لعدن.كان درويش يكره أن يسأله احد ذلك السؤال عن تركه لوطنه فلسطين لكثر ماسئل عن ذلك اينما ذهب ،لكن معظم الناس كانوا يجهلون الظروف التي كان يعيش فيها درويش في مدينته حيفا، في ظل الاحتلال ،والتي اضطرته للخروج،حيث " محرم عليه مغادرة المدينة، ومحرم عليه أن يخرج من بيته بعد الثامنة مساء" .. ولاشك انه خلال مرافقة فريد بركات له قد أسر له او حتى صارحه بشيء من ذلك ، فإذا بفريد في اللقاء التلفزيوني الذي أجراه مع درويش يُفاجئه بالسؤال : لماذا خرجت من فلسطين ؟ فما كان من درويش الذي ضاق ذرعاً بذاك السؤال، إلاَّ أن قال لفريد على الهواء :
  - حتى أنت يافريد !
مُستحضراً عبارة يوليوس قيصرالشهيرة
لصديقه :(حتى انت يابروتس !) تعبيراً عن صدمته بطعنة الغدر تلك التي تلقاها من أوفى صديق له ،كما وردت في مسرحيةوليم شكسبير:(يوليوس قيصر ).
                         □                       
 بعد أشهر قليلة من عودته من موسكو
انفجرت أحداث 13 يناير الكارثية، قتل شقيقه زكي بركات،واعتقل فريد ، و الالاف من الطرفين ، قتلوا،أو زج بهم في المعتقلات، ومن استطاعوا النجاة.. هربوا...                     
                     15          
  توفي فريد بركات في18مايو2019م في عدن عن 73 عاماً ، من مضاعفات نوبة قلبية كانت الثانية بعد عشرين سنة من الأولى. كانت هذه المرة القاضية. كان أوان الرحيل قد أزف فلم يستطع المقاومة، كان الجسد قد شاخ ، والقلب قد اتعبه المرض،وسنوات السجن حيث قضى عامين ونصف العام في السجن اثر أحداث 13 يناير 1986التي استشهد فيها شقيقه الشاعر زكي بركات رئيس تحرير صحيفة ( الثوري ) لسان حال الحزب الاشتراكي اليمني الحاكم، وكان الشقيقان ينتميان إليه قادمين من اتحاد الشعب الديمقراطي الذي أسسه المناضل التقدمي الكبير عبدالله باذيب .
                       □
 في المعتقل والسجن لم يكن فريد مستعداً للموت،رغم قسوة الحبس لشاعر
 رقيق الإحساس،وفوق هذا مريض  بالقلب..كان رهانه الأخير التمسك بالحياة .الرغبة في الحياة والاستمرار فيها، لأجل أحبة له خارج الجدران زوجة وأبناء، يرغب في رؤيتهم ، وأب ينتظره بشغف ، كل ذلك منحه الرغبة العالية في الصمود والحياة. ولم تكن هذه المرةالوحيدة التي ينجو فيها،فقد نجامن الموت بأعجوبة في سنة 1972 فيما عُرف بالأيام السبع (المجيدة!) حيث اجتاحت عدن جموع هائجة ،راحت تعتقل كل من تجده من المثقفين ومدراء المؤسسات والاداريين وتزج بهم لكثرتهم في ملاعب كرة القدم،أو تقتادهم إلى الشواطيء تحت تهديد السلاح،وكان من سوء حظ فريد بركات،أو ربما من حُسن حظه، أن أُقتيد إلى ساحل أبين..
هذه المرة، غاب عنه لطفي جعفر امان ،  وفنانه المفضل أحمد قاسم،والمعبد الذي بناه العُشاق في ساحل أبين..غاب العشاق والشعراء والأغاني، وحضرت فوهات البنادق المصوبة إلى صدورهم .. غابت حتى الأحلام الصغيرة لمدينة الفقراء الفاضلة ، ولم تبق إلا عيون الفوهات موجهة هذه المرة إلى صدره،حيث هدده مجهول نكرة بالتصفية الجسدية!لكن عنايةالله تدخلت في اللحظة الأخيرة،، سلم من الموت،لم تكن ساعته قد حانت ..أوكما يُقال "عُمر الشقي بقي" .
                       16 
 بصرف النظر عن المراكز الإدارية التي شغلها فريد بركات،وكلها لها علاقة بالثقافةوالإعلام، لكن الإنجاز الحقيقي له يظل إنتاجه الفكري والشعري المنشور في الصحف والمجلات اليمنية والعربية، إضافة إلى كتاباته الأدبية والنثرية والثقافية والسياسية، ودراساته النقدية التي بكل أسف لم تنشر في كتاب او كتب.ومثل هذا يمكن أن يُقال عن شعره ، فقد نشر مُعظمه في الصحف والمجلات والدوريات الثقافية ولم يُحاول نشره وإصداره في دواوين مثلما فعل شعراء أقل منه مكانة.ربماأن الوظيفةالحكومية. والعمل السياسي قد سرقا منه الوقت والعمر، لكن لم يسرق منه ملكة الابداع وكتابة الشعر الذي جمعه في آواخر أيام حياته في سبع دواوين( مخطوطة ) لم تنشر ، وديوانين باللهجة العامية.  
ينتمي فريد بركات إلى شعراء الحداثة، فهو احد كُتاب القصيدة الحديثة في عدن واليمن،ويعد من شعرائها الكبار مع شقيقه زكي بركات،وخاض الشقيقان في سبعينيات القرن العشرين الماضي معارك ومناظرات ساخنة في صحافة عدن مع خصوم الحداثة الشعرية والمدافعين عن القديم  .
                        17
 وفريد بركات ، بقدر ماهو شاعر حداثي يكتب بالفصحى ، فهو شاعر غنائي كتب باللهجة العامية(العدنية)العديد من القصائد الشعرية،وقد لحن وغنى من أشعاره باللهجةالعامية،والفصحى كبار المطربين والملحنين اليمنيين،وفي مقدمتهم صديقه الموسيقار أحمد بن أحمد قاسم،والفنان الكبير محمد مرشد ناجي،والفنان محمد عبده زيدي،والملحن أحمد بن غودل، والفنانةفتحيةالصغيرة،
والفنانة أمل كعدل،وآخرون..وهي أغاني عاطفية ووطنية وشعبية، موثقة في مكتبة الإذاعة والتلفزيون في عدن وصنعاء،وبعضها في مكتبة صوت العرب وإذاعةالقاهرة في مصر،ومكتبات الإذاعة والتلفزيون في دول الخليج العربي.ومن أغاني الشاعر فريد محمد بركات التي حازت شهرة واسعة:اشتقت لك ،حمام الشوق،خائف من حبك،حبائبنا،ياسامعين الصوت،طريق الحب،راضي حبيبي ،طيف الحبيب،ياشمس لاتغيبي،لحن الوصال.
لكن تظل أغنية (صبوحة ) الأكثر شهرة وأنتشاراً، التي غنتها فرقة الإنشادالتابعة لوزارة الثقافة في عدن، لأول مرة في المسرح الوطني في التواهي ، توزيع الملحن أحمد بن غودل.و"التي كسرت الدنيا " بتعبير إخوتنا المصريين .
                       18
بحس الشاعر المرهف،صاحب المشروع الغنائي أستلهم فريد بركات الأغنية التراثية ( بدوية ) المكونة من بيت واحد لايعرف قائله، كما هو حال مُعظم الأغاني التراثية  من هذا النوع.والتي تردد في المدن الساحليةالجنوبية أبين وشقرة ولحج وحضرموت.وهذه كما يقول في مقال قديم له أعادت نشره صحيفة(عدن الغد) طبيعة الغناء والألحان التراثية القديمة جداً،أن تكون مؤلفة من بيت واحد أو بيتين على الأكثر. وهذاما كان على فريدبركات..أن يفعله. توظيف البيت واللحن التراثي،وإعطائه كلمات جديدة ومعنىً جديداً،وكأنه يقرأ ماوراء البيت التراثي من معنى،أوما يتخفى وراءه من حقيقة.يقول فريد بركات:وهذا ماحدث معي،عند توظيف البيت الشعري الشعبي القديم ، بدلت كلمة "بدوية" في مطلع البيت بكلمة " صبوحة " التي اشتهرت بها الأغنية لأعطيها معنى الصباح،ومايرتبط به من قيم وطنية وفنية ومعان خليطةمن التعبير الفني والوطني والرومانسي، فأصبحت لفظة صبوحة هي السائدة في الأغنية وانتشرت بهذا المعنى الجديد . وبنيتُ عليها عشرين بيتاً من تأليفي ..
فيما قام الفنان أحمد بن غودل بتوزيعها واحتفظ لها بلحنها التراثي القديم وقفلتها الموسيقة اللحنية ( سرى الليل يالعاشقين).
                        19
تذكرني قصة صبوحة مع فريد بركات الآن بقصة أغنية( الا ياطير يالأخضر) مع الشاعر أحمد بومهدي التي غناها الفنان صاحب الصوت العذب والحساس محمد صالح عزاني ،وحققت هي الأخرى نجاحاً واسعاً في حينه، وإن لم يكن بنفس الشهرة والضجة التي احدثتها أغنية صبوحة.
 افتح الآن ذاكرتي على الطفل الذي كنته في الديس الشرقية بحضرموت ، الطفل الذي يأبى أن يعبر إلى الرجولة،اولايعترف
 انه قد عبر وصار شيخأ ... في طفولتي تلك، كنت أنصتُ إلى النساء وهن يغنين  " الاياطير يالاخضر.. وين مضواك الليلة ؟ ،، انا مضواي عند اهلي ..وانت مضواك السيلة" ! وهي من أغاني النساء يغنينها في الأعراس ، وفي مناسبات معينة ، وليس في كل وقت .
  ماأجمل بلدتنا الديس ، مااجمل بيوت الطين ،مااجمل أصوات غناء نسائنا،ما اجمل السيلة مرصعة بحجارة بيضاء ملساء، مااجملها وانا اعبرها إلى الضفة الأخرى، إلى بيت أختي الكبيرة آمنة التي تزوجت من علي مبارك باغويطة..ماأجمل النخيل ، مااجمل المطر والسيل يتدفق في السيلة إلى البحر ..
الشاعر أحمد بومهدي الذي عاش فترة من حياته المبكرة في الشحر بحضرموت  ويتردد على الديس الشرقية في سنواته الاخيرة،لاشك انه سمع هذا الغناء، فبنى على هذا البيت التراثي الأغنية التي غناها محمد صالح عزاني ،بعد أن بدل مطلع البيت بحيث أصبح:  "الاياطير يالاخضر فين بلقاك الليلة..؟ اناماباك توعدني وتنسى وعدي الليلة .." لكنه احتفظ للأغنيةالتي وضع لها كلمات جديدة، بنفس لحنها التراثي القديم ، وخيراً فعل، وأضفى عليها الفنان العزاني من إحساسه المرهف جماليات تضمن لها النجاح والإنتشار ...