عدن 1974..
  التواهي - المسرح الوطني .
  عندما رأيته أول مرة قلت في نفسي : هذا الرجل اعرفه!
 فكرت أين؟ فلم تسعفني الذاكرةعلى الفور..لكنه يشبه أحداً أعرفه ..
  كان ذلك خلال المؤتمر الأول لاتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين الذي عقد في عاصمة اليمن الديمقراطية .
 كنت من أصغر الأعضاء سناً، وبالكاد بدأت أولى خطواتي في كتابة القصة القصيرة وبضع سنين في عالم صاحبة الجلالة.
  تقدمت منه وسلمت عليه وكلي ثقة بانني اعرف الرجل :
   - مرحباً أستاذ عبدالله ..               
  ابتسم ابتسامةمُهذبة ومد لي يده وقال:
 - مرحباً..اناعبدالرحمن الملاحي وعبدالله أخي الكبير ..

  كدت اذوب خجلاً ، حاولت الإعتذار عن غبائي ، بوجه الشبه بينهما. لكنه طيب خاطري قائلا: 
 - لاعليك ..لكنك أول من يُلاحظ الشبه بيننا ..
                        □
 لم أكن اعرف الأستاذ عبدالرحمن الملاحي قبل ذلك اللقاء القصير ، لكني كنت اعرف شقيقه الشاعرالأستاذ عبدالله عبدالكريم الملاحي جيداً حين كان مديرا للمدرسة الوسطى بغيل باوزير  1965- 1967، وكنت تلميذاً في المعهد الديني في نفس المدينة غير بعيد عن وُسطى الغيل،وتوثقت معرفتي به أكثر لأنه كان المسؤول التنظيمي عني إذ كُنتُ عضواً في "القطاع الطلابي" للجبهة القومية منذ أن ضمني إليه أستاذ اللغة العربية  حسن يعقوب في بلدتي الديس الشرقية. كانت تلك فترة العمل السري ، وبداية سنوات الكفاح المسلح من اجل الظفر بالحُرية والاستقلال الوطني.

 وعندما انتقلت للدراسة في المعهد الديني نقلت وضعي التنظيمي إلى غيل باوزير حيث تعرفت على الأستاذ عبدالله الملاحي .  
                         2
 - هل تعرف الزعيم الصيني صن. يات .صن ؟
 - لم اسمع به ، لكن اعرف الزعيم ماوتسي تونغ...
 - هذا كتاب عنه ،، لخصه للإجتماع القادم ..
  كان أول تكليف كلفني به الأستاذ عبدالله الملاحي في الإجتماع الذي حضرته في منزل أحد الأعضاء: عندما قرأت النص عرفت ان صن يات صن يعتبر ابو الصين الحديثة وهو قائد سياسي وفيلسوف ومنظر ثوري صيني. قام عام 1912م بتشكيل حكومة مؤقتة في الصين بعد الإطاحة بأسرة تشينج التي حكمت الصين من عام 1644م حتى عام 1911م،وأعلن قيام الجمهورية في الصين عام1913م.وكان اول كتاب اقرأه في السياسة ، إذ كانت قراءاتي في اغلبها في الأدب، القصة والرواية والشعر والمسرح، ومنه انتقلت اليّ عدوى القراءة في السياسة إلى حين.
أنجزت التكليف وقدمت الملخص في الإجتماع التالي ، وأثنى عليه الأستاذ عبدالله. 
كنت بالكاد في الصف الثاني إعدادي،  وغشيم في أمور السياسة كما يقال .وكان ذلك ضمن حلقات التثقيف الذي كانت تحرص عليه الجبهة لأعضائها ، وكان مادة في كل اجتماع مثله مثل النقد والنقد الذاتي . وكنا كأعضاء ندفع اشتراكات شهرية حتى وإن كانت مبالغ رمزية !
                        3
 -  يسقط الاستعمار.. يسقط ..يسقط يسقط ..
 - يعيش جمال عبدالناصر ..يعيش ، يعيش ، يعيش ..
  كانت شرارات الثورة ورياح التغيير قد وصلت إلى حضرموت ، وغيل باوزير مدينة العلم والتنوير ، فكنا الطلاب في المعهد ووسطى الغيل نخرج للمشاركة
في المظاهرات والاحتجاجات التي تدعو لها ج .ق وجبهة التحرير ، نُطالب بالحرية والاستقلال للجنوب ونهتف بسقوط الاستعمار. وكانت تلك الشعارات رائجة تلك الأيام وتستهوينا كفتية في مقتبل العمر وصدر الشباب. ولم نكن وحدنا في ذلك بل أن فئات الشعب من مختلف الأعمار كانت منخرطة في النضال الوطني. 
  كانت تلك فترة المد القومي العربي وتصفية الاستعمار واقرار حق الشعوب في تقرير المصير.
وكان الأستاذ عبدالله الملاحي ُيلقي خطابات حماسية في تلك المظاهرات ، ومن بين الذين كانوا يلقون كلمات فيها سعيد ناصر التريمي الذي اصبح بعد ذلك مذيعاً مشهوراً لنشرة الأخبار في إذاعة  عدن ، وقبلها كان مذيعا في إذاعة  المكلا وكان يتمتع بصوت قوي جهوري،وكذلك الشيخ الأزهري عوض الله السيد عوض الله مدرسنافي المعهد الديني.
  بعد الاستقلال وخطوة 22 يونيو69 انتقل الأستاذ عبدالله الملاحي إلى عدن  وشغل سكرتير مجلس الرئاسة                                                           □
   تلك ذكرى بعيدة عن ظروف معرفتي  بعبد الرحمن الملاحي. لكن لم أكن أعلم أن داخل ذلك الجسم الضيئل والقامة القصيرة والكوفية الزنجباري، يكمن عالم جليل ، مؤرخ وباحث وكاتب قِصة قصيرة
ومسرحيات                
                       4
  ماأجمل بلادنا ؟ ماأجمل مُدننا وقُرانا ؟ وباديتنا؟ماأجمل مشقاصنا؟ كم فيها من الحكايات والبطولات ؟ وكم فيها من الأسرار؟ التي تستحق البحث ولم يكشف عنها بعد؟..كم لنخيلهامن كثافةواخضرار.. وكم لبحرها من زرقة وغزارة...؟ هناك ملجأنا الرائع بعد أن اصبنا بعدوى الغربة والاغتراب ، هناك الحياة الحقيقية حتى وإن بدت صعبة وقاسية.. زرنا مُدنا كثيرة، ورأينا عجائب كثيرة ، لكن وحده المشقاص لازال عصياً بأسراره وغموضه الفاتن حتى يأتي باحث مثابر ليكشف عن بعض سحره مثلما فعل عبدالرحمن الملاحي .
                          □
 أول عمل قرأته له كان مُفاجأة كبيرة لي .. كان عنوانه طويلاً جداً وغريباً بعض الشيء : (الدلالات الإجتماعية واللغوية والثقافية لمهرجان ختان صبيان قبائل المشقاص - الثعين والحموم !). وجه الغرابة أن الختان يكون عادة للأطفال المواليد ، لكن موضوع الكتاب يتحدث عن ختان صبيان في سن الفتوة وعلى أعتاب الرجولة !
 وهنا الوجه الأول للغرابة.

 أما الوجه الثاني، فإن هذا النوع من الختان في المشقاص يجري في احتفالات علنية جماعية يحضرها الرجال والنساء والأطفال،ولا يتم فردياً كما هي العادة في باقي المناطق والبلدان ، وهم في هذا يتشابهون مع طقوس الخِتان في بعض البلاد الافريقية ! وخاصة مثيلاتها في جنوب افريقيا كما جاء في كتاب مانديلا مع اختلافات تعود للعادات والخصوصية المحلية،،،
هناك سبب آخر لتأخير ختان الصغار حتى يبلغوا سن الثانية عشرة او نحو ذلك فالأسر التي تحدث فيها وفيات لأطفال صغار تعمد لتأخير سن المواليد الذين يأتون بعدهم ظناً منهم ان ذلك يضمن سلامتهم وهذا ما كان يحدث في الديس ومناطق اخرى إلى وقت قريب وربما مازال يحدث،،،

  والوجه الثالث للغرابة أن مهرجانات الختان في المشقاص - قبائل ثعين
 والحموم - عادة حضرمية قديمة قبل دخول الإسلام إلى حضرموت واعتناق الحضارم للدين الجديد ، كانوا يمارسونها في ظل آلهتهم الشمس والقمر والزهرة، لكنها استمرت معهم بعد دخولهم الإسلام وحتى  أوائل القرن العشرين  .

                        5
 جاء الشيخ عبدالرحمن الملاحي بدون بدلة رسمية ولاكرفتة.بفوطته وقميصه وكوفيته الزنجباري ونظارته الطبية وجلس على الكرسي الشاغر بكل تواضع ، لكن كان له جلال التاريخ ، والأدب. شخصت إليه أنظار جمهوره الذي ينتظره في نادي سمعون بالشحر . 
الوقت .. السابع من مارس 2013 ، الساعة بعد صلاة المغرب، موعد الندوة التي يقيمها النادي للمؤرخ والباحث العلامة ليتحدث عن كتابه ختان الصبيان في المشقاص المُشار إليه، ومما كان لافتاً إستعــراضه قصـيدةشعبيــةمشقــاصية من القرن الثامن الهجري للشــاعر إبــن ضبعــان الثعينــي ،وهي من ملاحم الختــان المشــقاصيةكُتبـت باللهجة المشــقاصية الدارجة،التي هي مزيج من العربية والمهرية وبعض اللغة الفارسية.
 في تلك الندوة استحضر الملاحي تلك المشاهدالبعيدة،المثيرة للذهول والدهشة وكأنه يسردها للمرة الأولى ، متذكراً التفاصيل الدقيقة، وجمهوره المرهف المتعطش لما يقوله ينصت إليه بكل حواسه..وكان الأستاذ سخياً وجميلاً ومتألقاً ،رغم بوادر تعب من مرض وشيخوخة .( مات بعدها بثمانية أشهر) 
هدوء كامل وإنصات في حضرة العالم الذي يزن كل حرف من كلامه ويضعه  في موضعه الصحيح ..
                         □
  ● عرَّف مُصطلح المشقاص لغوياً بأنه (بائع اللحم ) ولفظة(شقص) تعني قطعة اللحم .لكن المشقاصيين يعرفون أرضهم 
المشقاص بأنها جهة الشرق ، في مقابل  مصطلح المعراب الذي يعني جهة الغرب . وهي مصطلحات لغوية حضرمية قديمة.
تمتد المنطقة جغرافياً من منطقة زغفــة غربــاً إلى مينــاء حيريج على مصب وادي المسيلة شرقاً وشمالاً إلى ريدة
المعــارّة ورسب ووادي عدم حتى مساق
 وادي المسيلة شرقاً .
 ●قبــــائل المشقــاص ليست محصــورة في ثعين والحموم فمنهم بيت قرزات (قرضــات)من كندة وآل بــاعباد ،وال عمـــودي وغيرهم .
 ● يعتز المشقاصيون بالختـان وبالزواج وتقام لهذا الغرض مهرجانات جمــاعية تستمــر لمــدةأسبــوع أو أكثــر تعقد فيها هدنةلمدة أسبوعين،أسبوع قبل المهرجان وأسبوع بعده، يحرم فيه القتال بين القبائل ومن يخالف ذلك يقومون ضده جميـعاً ...         
●يتم الختان بصــورة جمــاعيةلمجموعة من الأطفــال من عدةقبائل،وعمليــة الختـان تعتبر إنتقالاً من مرحلة الطفـولة إلى مرحــلةالرجـولة،ويعتبــر الشخص طفــلاً قبل ختـانه حتى وان كـان قد بلغ
العشــرين أو أكثــر من عمره ،ويحـرم قتلــه بيــن القبــائل .
 ●كما أن الزواج يعتبــر إنتقالاً من مرحلة العزوبية الى مرحلة الزوجية وبنــاء الأسرةولهذا فأن قبــائل المشقــاص تعظم ظــاهرة الختـان وتقيم لها المهرجانات الخــاصة، يجتمع فيهـا كل أفـراد القبيلة من رجال ونساء وأطفال شيبــاًوشبّـانا.وقد ظلت هذه المهرجانات متداولة، وكان آخر أبرز المهرجانات
 الختانية في عامي 1919-و1920م ثم بدأت تندثر كمهرجانات وظـلت بعض عادات الختـان مُتداولة بصورةفردية .

 ●  عادة الختان المشقـــاصية ، قديمة متوارثة منذ ماقبل الإسـلام عندما كان اهل حضرمــوت على الوثنيــة، يعبدون الشمـس والقمـر والزهرة.وبعد دخولهم في الأسلام لم تندثر بل تم الأحتفاظ بها   كجزء من العادات والتقاليد.
 ●تقام مهرجانات الختان،حسب التقويم النجمي الســائد في حضرموت ،وغـالباً مايتم اختيار أحد موعدين ، بحسب ظروف وإمكانية كل منطقة قبليةصاحبة الشأن ،فأما أن يحدد بأيام نجم(خبــاء) الذي يحل في السادس من سبتمبر مع نهاية جني وتجفيف وتخزين ثمــار نخيلهم والأنتهاء من حصاد الذرة.  .أو في الموعد الثاني المحدد باليوم التــاسع من شهر فبراير عندمــا يخف البرد
ويعتدل الجو وتهطل فيهالأمطـار، 
                        □
وللمطر رائحته في هذه البلاد ، وللناس الفرح في مثل هذه المواسم ،حيث يركض الأطفال مدهوشين والماء يسقط فوق رؤوسهم ويبلل ثيابهم واجسامهم ،، 
،وعادةً مايكون مكان الختان في أحد الوديان الذي تكثر مياهه وأشجاره الظليلة ، وتعطره رائحة النباتات البرية ..
                        6
لكن الطقوس المرتبـطة بالخــتان ، كما  صورها الملاحي في كتابه وتحدث عنها في الندوة هي اللحظة التي تحبس فيها الأنفاس ، وتشرئب فيها الأعناق.. اللحظة الحاسمة التي ينتقل فيها الصبي من  عالم الطفولة إلى عالم الرجولة ..اللحظة التي يثبت شجاعته النادرة وقوةالتحمل، فلا يجزع أو يظهر الألم، فبين الجمهور فتيات وإذا رأين منه أي شيء يدل على جزع أو ألم فقد لاتقبل الزواج منه إذا تقدم للزواج منها ،، وبين الحضور رجال سينضم إلى عالمهم قريباً، عالم القتال والبطولة، وقد يعيرونه بالجُبن والخوف.. وبين الحضور صبية في سنه أكبر أو أقل عليه أن يكون لهم المثل في الشجاعة وقوة التحمل..إمتحان صعب وليس مجرد قطعة جلد صغيرة يفقدهابشفرة
(الخاتن).
                         □
 ● يصعد الصبي على المنصة (المختنة) نصفه الأعلى عارِِ ، ويرتدي إزاراً يغطي نصفه الأسفل يُسمى (الصبيغة) متمنطقاً جنبية وقليبي يربطهما في وسطه على الإزار بواسطة سوار من الجلد المصقول المُزين بالزخارف ،، يلقي الصبي بمجرد أن يعتلي المختنة بأبيات من الشعر ، قصيدة أو أكثر، ثم يتقدم لإجراء عملية الختان من قبل الخـاتن بحضور حكَم وشاهدين يمدان سـاتراً من قماش يحجب النصف الأسفل للصبي عن أنظــار الحــاضرين، بينما نصفه الأعلى يراه الجمهور،ويظل الصبــي ثــابتاً في موقعه شاخصاً بنظره إلى نقطة محددة في الجبل المُقابل ،وفي أثناء ذلك يقوم الخاتن بقطع جلدة الذكر "القلفة"بخفـــة وبسرعة ،ويراقب الحكم حركة الصبـي وتأثيـر الختان عليه ،في حين يكتم الصبي أنفـاسه مشدداً تركيــزه على نقطة الجبل ومجـاهداً في عدم إبداء أي حركة تنم عن جـزعه أو شعوره بالألم!
 عليه أن يبدي الشجاعة والجلد ،حتى لايوصم بالجبن والضعف ! وعندإنتهاء العملية يرفع الشاهدان الساتر وتنطلق الزغاريد وتتردد في أرجاءالوادي صدى الطلقــات النارية المتكررة إبتهاجاً ،ثم يهرع الصبي إلى خيمةالتمريض ليغير أزاره بآخر ،ويعود مهرولاً راقصــاً ناشراً خنجره مـــزهواًطــــرباً ورافعـــاً يده، تحفــه صيحات الإعجـاب وكلمات التهانئ ، ثم يعود إلى الخيمة لتضمــد أمه جـراحه بأدوية معروفة من الأعشاب .ثم تتوالى هذه الطقـوس نفسها على بقية الصبيــان المنتظرين دورهم واعصابهم مشدودة..
                        □
   تلك كانت إطلالتي الأولى على عالم الملاحي والمشقاص المدهش ،،لم أكن اعرف ان مهرجانات الختان هذه اصلاً موجودة ،أو كانت موجودة حتى وقت قريب في المشقاص ، رغم انني انتمي إلى هذا المشقاص.ولاكنت اعرف ان ختان الصبيان يتم في سن متقدمة على أعتاب الرجولة ، وليس في سن مبكرة حيث يتم ختان الصبي غالباً بعد الأسبوع الأول من ولادته .
                       7 
    زيارته الأولى لوادي ( بدش ) عام 1952 كانت مذهلة ، قضى في ذلك الوادي 18 يوماً شكلت الجذور في توجهه فيمابعد نحوالاهتمام بالدراسات والأبحاث الثقافيةوالموروث الشعبي. 
      أنهى للتو المستوى الثانوي ، عاش حياة سكان الوادي البسيطة ، ينام في عريش ، ويتجول بين النخيل ، ويفطر من رأس النخلة، ويشرب من الغدير، ويتغذى قطعة خبز مع قليل من اللخم ، والعشاء لبن مع خبز مما ينتجه سكان هذه الأرض الطيبة وهم في قمة الارتياح النفسي. شاهد وسمع الكثير في تلك الأيام،  وقد سجله في مذكرته وظلت معه لوقت طويل حتى كتب عنها في كتابه : ( الدلالات التاريخية والاجتماعية من مهرجانات الختان في المشقاص )..ومنها قصيدة طويلة من 86 بيتاً رواها له أحد كبار السن ، لم يكن قادراً على فهم بعض كلماتها ، وتعجمت عليه تماما، لكنها فتحت أمامه المجال في البحث التاريخي،لوجود الفرس في المنطقة،نظراً لكثرة الألفاظ الفارسية في القصيدة .وتتبع الأماكن التي نزلت فيها قوات الفرس، والمواقع التي دارت فيهاالمقاومة للغزو الفارسي ، وظل زمناً يرحل بين شقرة والحوف للسؤال عن (مثوب) التي نزلت فيها القوة الفارسية ،وفتح له ذلك مجالاً كبيراً للقاء مع شيوخ المنطقة فوجد احاديثهم تتطابق مع ماجاء في القصيدة ، بل أن القصيدة المشقاصية أكثر عمقا من القصيدة النقشية. 
    تلك كانت البداية، لاشيء يحدث وليد الصدفة ، لأن تلك الزيارة الاولى لوادي بدش ، سيرفدها بجولة جديدة عام 1974م لكن هذه المرة مع لجنة البحث في التراث وليس بمفرده. كان يدير فرع مكتب وزارة الثقافة مديرا لفرع المركز اليمني  للأبحاث والدراسات والاثار)
 في حضرموت ، ويشرف على عدد من اللجان التي قامت بزيارات ميدانية لمديريتي دوعن وحجر، وقبلها ترأس لجنة للتنقيب عن التراث في الشحر والحامي والديس الشرقية وقصيعر والريدة وتريم وسيئون والقطن وشبام ووادي دوعن .      
                         8                
 إصرار عبدالرحمن الملاحي منحه التفرغ من العمل الإداري للبحث العلمي والأبحاث..
 الوزير محمود النجاشي ، وزير الثقافة حينها في مطلع الثمانينيات من القرن العشرين الماضي ، اعترض في البداية لكنه لم يجادله كثيراً.
 كان الوزير يقدر الملاحي ويقدر عمله ، اجتمع به وقال له :الأخوة في حضرموت يريدون مديراً (حزبياً) للثقافة في المحافظةوانا مضطر للنزول عند رغبتهم   لكن لا أريدك أن تبتعد عني ولا عن العمل الثقافي .. سوف انقلك إلى عدن .
 كان اميناً عاماً لاتحاد المسرحيين ، ومديراً للمراكز الثقافية في الجمهورية، ويعمل في قسم مراقبة المصنفات بالوزارة. شكر الوزير وقال له : لدي الكثير من الأبحاث التي اريد ان افرزها واتابعها، اريد تفرغاً من العمل الإداري،  
فمنحه مااراد. وكما يقال رُب ضارة نافعة.
 فكانت تلك فرصته للتحرر من الروتين الإداري الذي يقتل الابداع مثلما تقتله السياسة..
كسبت الثقافة وحضرموت عالماً وباحثاً اثرى الحياة الثقافية والمشهد الثقافي بفيض علمه في رحلة عطاء استمرت قرابة ستين عاماً، تربوياً ومؤرخاً وباحثاً واديبا.ً..                                                                      9
  أشعر الآن بالندم لأني لم احاول الاقتراب من عوالم الرجل خاصة انه ينتمي إلى حرفة الأدب وعاش فترة من حياته في السبعينيات من القرن الماضي في عدن حيث تولى لعدة سنوات رئاسة اتحاد المسرحيين. كما أنه ينتمي مثلي إلى قبيلة السرد كاتباًللقصة القصيرة ، والمسرحية. وربما يعود السبب إلى أن عبدالرحمن الملاحي عاش زاهدا في الأضواء، ومن النوع الذي يحب ان يؤدي عمله بصمت بدون ضجيج ، مع ان الذين يشتغلون في مجال كالمسرح يكونون أقرب الناس إلى عالم الإعلام والأضواء ، ولكن والحق يقال بالكاد كنا نشعر بوجوده .
 كتب الملاحي المسرحية الواقعية والتاريخية والذهنية. ومن اعماله المسرحية : الثائر المجهول ، وأشرقت الشمس ، والحصاد ، وحكاية قرية ، والرحلة  (ابوعنّك) ، و لأجل ابي . والرحالة وهي مسرحية تاريخية حوّل اسمها إلى (حنكوب) وهو اسم معروف في بادية حضرموت، وموضوعها عن المقاومة ضد الفرس في المناطق الشرقية بحضرموت.وبعض مسرحياته مثلت في عدن ولحج والمكلا .
كما إن له ابحاثاً في المسرح : الحركة المسرحية في حضرموت، تاريخ المسرح بمديرية الشحر. حرية المرأة في شعر المحضار المسرحي. النشاط المسرحي في حضرموت خلال عشرين عاما 67- 1987. 
                       10
 وللقصة نصيب في كتابات عبدالرحمن الملاحي ، كتبها منذ كان طالباً في مدرسة المعلمين بغيل باوزير ، واشترك في مسابقاتها وكان مركزه الثاني . أولى قصصه القصيرة( صراع الحب)نشرهافي صحيفة "الطليعة" الصادرة في المكلا  1960 وظل ينشرفيها إلى حين تم إغلاقها.وواصل نشر قصصه بعد ذلك في صحيفة ( الشرارة) ، ولم يتوقف عن كتابة القصة ولكن كما قال : "اكتبها عندما ينتابني هاجسي للكتابة فيها ، وبت انحو نحو مضمون الفكر والرؤية إلى واقع الأمة الإسلامية". ومن قصصه: فأر الحلاق ، صوت الذاكرة ، أي شيء ، هو والباقية.لكن علاقة عبدالرحمن الملاحي بالحكاية قديمة، تعود جذورها إلى طفولته ، إلى عمته التي تحفظ الكثير من الحكايات الشعبية والأشعار، فكان ينصت لرواياتها وحكاياتها:السلطان وبنت مشرق الشمس ، سارق حضرموت ، وسمسانة وغيرها. وكان للعمة اسلوب جميل شيق تروي بها تلك الحكايات فصار الطفل ينصت إليها بالساعات بكل كيانه .
 والمدخل الثاني إلى عالم القصص والحكايات كان شغفه بالقراءة منذ طفولته خاصة كتاب " المستظرف من كل فن مستظرف " الذي وجده في مكتبة بيت الأسرة، فصار التأمل وحفظ جزء مما فيه عادة متحكمه في نفسه، بالإضافة إلى الإنصات إلى العمةوحكاياتها
 الشائقة مما طغى على رغبة الطفولة في اللعب مع اقرانه في الحارة. ثم عمق قراءاته في مكتبة المدرسة الوسطى و دار المعلمين حيث بدأ يتشكل وعيه وإدراكه وتطلعاته الأدبية والفكرية ، في عقدى الاربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين الماضي ومثل ذلك نافذته إلى عالم التجديد بالتجاوز على واقع الثقافة التقليدية في مجتمع حضرموت، فكان ذلك بداية التعرف على الثقافة العربية التي كانت تعيش حركة فكرية وثقافية تنويرية برزت في تلك الفترة .

                       11
 الشحر جميلة ، والشحر مدينة بحرية عريقة على بحر العرب، من أشهر مدن وموانيء حضرموت منذ القدم ، ولعبت الشحر التي حلت في بداية العصر الإسلامي مكانة ميناء قنا القديم دور بوابة حضرموت على المحيط الهندي لأكثر من ألف عام (632-1915) عندما حلت المكلا مكانها وأخذت هذا الدور .

 وجاء ذكر الشحر في عشرين من مصادر العصر الإسلامي الوسيط على إنها إحدى مناطق شبه الجزيرة العربية وأهم المنافذ البحرية بين عدن وعُمان ، وبين الساحل الجنوبي لشبه الجزيرة العربية وأفريقيا والهند ، ولاشك ان أولى الهجرات الحضرمية انطلقت منها، كما هزمت الغزو البرتغالي .وكانت عاصمة للعديد من الدول الحضرمية.
مدينة بكل هذا التاريخ والمكانة كان لابد أن تثير إهتمام الباحثوالمؤرخ
عبدالرحمن عبدالكريم الملاحي الذي ولد فيها ، وان يتعمق في تاريخها وفنونها، وأوله تاريخهاالبحري فنجده يكتب عنها :
" مدينة الشحر البوابة التاريخية البحرية لحضرموت في القرنين الثامن والتاسع الهجري". و" الوجيز في تاريخ الشحر"، و"ابحاث من حضرموت ".وللبحر رائحته، وموجه،وشهقاته، وافراحه، ودهشاته في
" أغاني الصيادين والملاحين بحضرموت"
كماكتب عنها.ويمتد اهتمامه إلى الحضارم الذين حملهم البحر وذراهم في شواطيء المحيطات في "الهوية الثقافية لحضرموت وأثرها في المهاجرالحضرمية.
..عن الحضارم في ممباسا ودار السلام" .. وقصص البحر لاتنتهي ولا اهتمام الملاحي بالبحر فيترجم هذا الاهتمام بأبحاثه التاريخية والملاحية :"الطريق البحري بين مسقط والمخا في مرشدات الربان باطايع"، رائد الملاحة البحرية العربية في القرن التاسع عشر ، سعيد بن  سالم باطايع المولود في الحامي1189
هجرية والمتوفي فيها 1261للهجرة  وكان يستخدم الشعر بدلاً من الخرائط،  ويعتبر من أشهر الملاحين الذين اسهموا في وضع المرشدات البحرية.وسيفتح هذا شهيته للكتابة عن"معارف ربابنة
جنوب الجزيرة العربية في القرن التاسع عشر". و"ملامح من التداخل المعرفي بين ربابنة حضرموت وعُمان" وعن" التقويم النجمي لآل باكريد" و"روزنامات الربان بامعيبد". وعن موسم "البلدة مابين المدلول الفلكي والمفهوم الشعبي". وقد تحول إلى موسم سياحي في المكلا وسواحل حضرموت . وربما كان في الخاطر أبحاث اخرى كثيرة عن الملاحة
البحرية ، وعن (بادية المشقاص )فقد توفي الملاًح عبدالرحمن الملاحي في الثالث من نوفمبر 2013 رحمه الله تاركاً إرثاًعظيماُ من الأبحاث والدراسات بما في ذلك إماطة اللثام عن هزيمة الغزو الفارسي للمشقاص. 
                     □
  أتصور الآن كم كانت ستكون مهمتي صعبة في الكتابة عن شيخنا الجليل لولا ماكتبه عنه: الدكتور عبدالله الجعيدي، والأساتذة: عادل باعكيم ،وصالح حسين الفردي ، وانور السكوتي التي كانت كتاباتهم عن عبدالرحمن الملاحي عوناً لي ، فلهم كل الشكر ، ولشيخنا الجليل   الرحمة ولروحه السلام .