بعض الشخصيات يصعب الكتابة عنها، مع انها تبدو من النوع السهل، لكنه اشبه بالكتابة التي يسمونها "السهل الممتنع " تستسهلها عندما تقرأها، وتقول لنفسك : (وايه يعني ؟كل واحد قادر على كتابتها) لكن عندما تحاول تجد نفسك عاجزاً ان تكتب ولو جملة واحدة ...! 
 هكذا كان أحمد سالم الحنكي،،الصديق والانسان،والمثقف،والإداري..يبدو كِتاباً واضحاً،ومفتوحاً.صريحٌ،وصلب عندما يتعلق الأمربالمواقف المبدئية،والتنظيم وادارة العمل.طيبٌ ودود ورقيق كنسمة صباحية على شواطيء عدن،فيمايخص الصداقة والعلاقات الإنسانية.بمعنى (في العمل أنا المسؤول أرسم الخطط، واوزع المهام،وامنح الصلاحيات،وأتابع التنفيذ، واتوقع منك أحسن أداء،وهناك مبدأ
الثواب والعقاب والحوار والحافز حاضر.  في العمل مافي" يااماه ارحميني"، لكن خارج العمل انت صديقي على عيني وفوق الرأس،أولع لك أصابعي العشرة شمعا..." ..
                         □
 لم اعمل تحت إدارته بعد أن تعين مديراً لتحرير جريدة(14 اكتوبر) اليومية خلفاً لي سنة 1978، ولابعد أن تعين مديراً عاماًلدار الهمداني للطباعة والنشر،  ،،إذ أنتقلتُ إلى المؤسسة العامة للسياحة، ثم وزارة الخارجية. 
 ظلت علاقتي به من أفضل مايمكن بين صديقين واصحاب قلم لا تشوبهاأية
شائبة، كتلك التي يشعر بها مدير سابق للمنصب والشخص الذي جاء "يحتل"
منصبه !
                        2
  خرجت من شقتي الواقعة في عمارة كوريا موريا ، غير بعيد من مبنى الجريدة ومطابع14اكتوبر" ممتلئا نشاطاً في طريقي إلى مكتبي كما هي عادتي كل صباح ، وقبل أن أصل إلى مقر الصحيفة بقليل،لقيني الأستاذ فضل عوزر مصحح الجريدة منذ سنوات ، وهو رجل وقور من لحج خريج صحافة من بغداد ، له تاريخ نضالي ضد الاستعمار البريطاني وتعرض للملاحقات ،وترأس أول صحيفة  (صوت الشعب )المعارضة  التي كانت تصدر في لحج،وصحيفة( تبن) ايام السلطنة العبدلية، وهو من قامات لحج ومثقفيها الكبار، لكن الرجل لتواضعه أخفى عنا كل هذا التاريخ ورضي بوظيفة مصحح، بينما كنا جميعاً قياساً إلى تاريخه مُجرد تلاميذ ،، 
  بعد  السلام والتحية سألني :
 -  على فين ؟
 اجبته وقد استغربت السؤال :
 - كالعادة إلى مكتبي ..
 قال لي :
 - ارجع إلى بيتك ..!
 سألته باستغراب:
  - ليش ؟
 - ليش ماسمعت الراديو..
 قلت : لا ...
 قال : لقد عينوا مدير تحرير جديد ...
  هكذا ، وفي صباح من صباحات عدن الباكرة، عرفت من فضل عوزر انني لم أعد مدير التحرير ، عُدتُ أدراجي إلى شقتي ، كانت زوجتي أول من استلقاني 
بالسؤال :
 - مالك رجعت ؟!
 اجبتها :
 - عينوا واحد ثاني بدالي ...
   أبصرت الدهشة في عينيها،، اشتهيت ان تسألني:"ماذا ستفعل الآن ؟"، لكنها لم تفعل ، وحمدت الله على ذلك.
   زميلي سعيد عولقي هو الذي طرح علي السؤال بعد فترة :             
   - ايش بتشتغل يامسكين ، وانت لاتعرف اي شغل تاني غير الكتابة؟!!
  الحقيقة انه كان على حق،فمنذ وعيت الدنيا لا أعرف أي عمل آخر غير الكتابة،
 لقد رهنتُ عمراً كاملاً للعمل لدى صاحبة الجلالة الصحافة، ولم يخطر في بالي لحظة واحدة انني سأصبح بجرة قلم خارج عالم الحروف والكلمة، لهذا لم أعرف بما اجيب على سؤال زميلي  سعيد !
                        □
انتابني شعور قاهر في مكتب وكيل وزارة الإعلام الدكتور عبدالرحمن عبدالله إبراهيم الذي ذهبت ألتمس عنده بعض العزاء ووظيفة في ديوان الوزارة أو أحد المرافق التابعة لها كالإذاعة او التلفزيون، او وكالة انباء عدن، كنت قدمت برنامجاً ثقافياً اسبوعياً في إذاعة عدن من إعدادي وتقديم اثنين من الاصوات الإذاعية الجميلة هما:ناصرعبدالحبيب،
ونبيلة حمود ،وآخرا حوارياً بعنوان ( مشوار) من إعدادي وتقديمي في التلفزيون ، مماكان يسهل إلتحاقي بأحد الجهازين ، كما اكتسبت خبرة في كتابة الأخبار من خلال عملي سنوات طويلة في الصحافة لكني لم أجد تشجيعاً من وكيل الوزارة ، كل ماقاله لي :
  - هل تعرف لماذا استبعدوك من اكتوبر؟ 
   قلت : لا ..  
   كنت اعتقد ان هناك اسباباً سياسية لااعرفها وراء ذلك، وان الوكيل يعرف شيئاًعنها،لكنه صدمني عندما قال وهو يبتسم تلك الابتسامة الساخرة التي اشتهر بها :    
  - لأنك حمار شغل !!
 ولم يقل لي الوكيل انه لايملك صلاحية  لالحاقي بأي من تلك الأجهزة. كان عليٌ أن أفهم ذلك لوحدي ...
                         □
خرجتُ من عنده مصدوماً، إلى مكتب صديقي عبدالله حسين المسيبلي مدير عام المؤسسة العامة للسياحة غير بعيد عن مبنى "ال بينو "حيث وزارة الإعلام ، الذي عرض علي وظيفة في دائرة الإعلام السياحي قبلتها على الفور إذْ لم يكن لدي خيار آخر.. 
ورأيتني اخرج من عنده في ذلك اليوم، والسعادة تغمرني، وزال الحُزن الذي كان يجثم على صدري .باشرتُ عملي في نفس اليوم بنفس درجتي الوظيفية والراتب ، فنزل ذلك برداً وسلاماً على قلبي،،لم أعد احمل عناء البحث عن وظيفة،ولاهَم التفكير في أسرتي الكبيرة التي كُنت عائلها الوحيد ، وفوق هذا وجدتُ عملاً له علاقة بالكتابة ...
 لم أكن أتصورلحظة انني سأكون حزيناً وسعيداً هكذا في نفس اليوم.   
 رجعتُ البيت أُبشر أبي فقال لي بحكمة الحضرمي الذي عتقته السنين والتجارب ، وبايمان عميق : 
  - ُسبحانه ، يُغلق باب ويفتح باب !!                  
                       □  
  رن الجرس في مكتبي بدائرة الإعلام الخارجي ، وقالت لي البدالة:
 - لك مكالمة من 14 اكتوبر ..
كان المتحدث أحمد سالم الحنكي يعرض علي مُواصلة الكتابة في"اكتوبر"، بعمود يومي. كان بي حنين شديد إلى الكتابة، وإلى اكتوبر مدرستي التي تعلمت فيها أبجديات الصحافة ،، فقبلتُ على الفور بدون أدنى تردد أو شروط من أي نوع ،مع علمي ان كِتابة العمود من أصعب أنواع الكتابةالصحافية،فكيف بعمود يومي؟ إذْ عليك أن تجد فكرة جديدة كل يوم،وأن تعبر عنها بأقل عدد من الكلمات، وأن تثير اهتمام القراء بما تكتب ، لكن أن يختارني أحمد سالم انا بالذات من بين كل المحررين الذين في الصحيفة ، ومن بينهم أصحاب قلم رفيع وكتاب أعمدة فهذا يعني انه يثق بقلمي وبامكاناتي في الكتابة. 
اخترت له ( مِنَّا إليكم ) عُنواناً. واختار أحمد سالم الصفحة الأخيرة لينشرفيها
،وهي صفحة بنفس أهمية الصفحة الأولى،وهذا يعرفه الذين اشتغلوا في الصحافةأودرسوها..وأحياناً فإن اهتمام القاريء بزاويةمايأتي من أهمية كاتبها ومايكتبه بصرف النظر أين تنشر ،، وكان عمود ( فكرة ) علي أمين، في "الأخبار"، التي واصل كتابتها توأمه مصطفى بعد وفاته، ويوميات أحمد بهاء الدين في "الأهرام" التي كانت رصداًدقيقاًلأحوال مصر السياسيةوالاجتماعية والثقافية. وعمودا فكري اباظة ،واحمد الصاوي محمد ( ماقل ودل ) في "الأهرام" من أشهر الأعمدة في الصحافة المصرية.
                         □
 كتاب هذا النوع  قليلون في الصحافة المحلية،اذكر منهم محمدشوذري الذي كان يكتب زاوية ( فكرة ) اليومية في أكتوبر، مستوحياًالعنوان من علي امين. لكنه توقف عن كتابتها بمجرد سفره الى مصر .ومحمد المساح الذي ظل يكتب عموده اليومي ( لحظة يازمن ) لعدة عقودفي جريدة"الثورة"الصادرةفي صنعاء،والذي تميز بالجراءةوالصراحة
 وملامسة هموم المواطن،ولم يتوقف عن كتابته إلا في السنوات الأخيرة عندما اجبرته ظروف الحرب،وانقطاع سبل العيش،وانعدام مساحةالحرية التي كان يتمتع بها في عموده اليومي،ومات في ابريل2024 عن 75عاماً .
                         □
  لا أستطيع تصنيف نفسي من كُتاب العمود،ففي الأساس دخلتُ الصحافة من باب الأدب والقصةالقصيرة،ثم وجدتُ نفسي في موقع سكرتير التحرير، ثم مدير التحرير ذات يوم رغماًعني،لكن صديقي العزيز عبدالوهاب الحوثري الذي ،التقيته في القاهرة قبل عدة أيام، ذكرلي انه كان ينتظر صدورصحيفة اكتوبر كل يوم،وكان أول مايقرأه عمودي فيها ( منا إليكم ) . أن يذكر ذلك بعد اكثر من اربعين سنة، وعنوان الزاوية التي كنت اكتبها لاشك انه كان يعني له شيئاً، وإلاّ لماتذكره بعد مضي كل هذه السنين ؟!!                
                        2
   ينتمي احمد الحنكي إلى أسرة من العسكريين المثقفين،والده سالم قاريء بامتياز وحفاظة للشعر،ومنه رضع أولاده حُب الكِتاب والقراءة،وشقيقه عبدالله دبلوماسي وصاحب قلم جميل لاتنقصه الشجاعة،وشقيقه عبدالناصر،فنانٌ ونحات
،وشقيقه الأصغر كريم الحنكي شاعر معروف.استطيع القول ان أحمد سالم قد ثقف نفسه عن طريق حُبه للقراءة، إذ كان يعتبر الكِتاب افضل صديق له ولأي إنسان يريدأن يقترب من عالم المعرفة
،وكان يعبر عن استيائه صراحةًإذا دخل بيت صديق ووجد دولابه مملوءً
بالكؤوس والفناجين والصحون بدلاً من الكتب،خاصةً إذّا كان ينتسب إلى عالم المثقفين وارباب القلم وماأكثرهم...!!
                       □
 بدأت علاقة أحمد سالم بالِكتاب والقراءة منذ وقت مبكر من حياته ،  فالطفل الذي ولد في مودية سنة1948 ،تلقى تعليمه الإبتدائي والمتوسط في عاصمة الولاية دثينة، على بعد حوالي 130 ميلاً من عدن، ثم انتقل إليها والتحق بسلك بوليس عدن، ودرس في معهد الجنوب التجاري. 
عام 1965، كان الكفاح المسلح في أوجه فانضم إلى القطاع الفدائي لجبهة التحرير ، لكن عندما وقع احد أفرادفريقه في أسر القوات البريطانيةسنة 1966، صدرت تعليمات القيادةلباقي أعضاء الفريق بالاختفاء والمغادرة إلى الأرياف ضماناًلحياتهم،فعاد إلى مسقط رأسه مودية. 
  كانت مكتبة والده ملأى بذخائرالكتب،
فعكف على القراءة في الأدب والسياسة والتاريخ.وربما كان ذلك بداية علاقته الوثيقة بالثقافة وهو في هذه السن،، والذي استمر معه في جميع مراحل عمره. كمااستمر معه احساسه العميق بالحرية والنضال من اجل استقلال وطنه 
 فانضم إلى الجبهة القومية التي كان نفوذها قوياً في الأرياف،على خطى والده وشباب المنطقة الذين سبقوه إلى ذلك.كانت الثورة على موعد مع النصر، والجنوب على موعد مع الاستقلال الذي لم يتأخركثيراً فتحقق في 30 نوفمبر 1967ليلتحق بالقوى الجويةالفنية،وتلقى
 دورة تأسيسية في الهندسةالجوية
وسافر سنة1972 إلى الاتحاد السوفيتي لدراسة هندسة الطيران ،لكن كان كل شيء يقوده إلى حلمه الذي خُلق من أجله. شغفه بالإعلام والصحافة جعله يغير تخصصه إلى دراسة العلوم الإجتماعية في كلية العلوم العسكرية والاجتماعية في موسكو حيث نال شهادة الدبلوم، فعين بعد عودته سنة1975 رئيساًلتحريرمجلة(الجندي) الناطقة باسم جيش ج ي د ش ،ثم نائباًلمدير الدائرة الإعلامية بمجلس الوزراء، فاقترب خطوة نحو تحقيق حلمه...
                        □
  في عام1980 تعين بمنصب رئيس مجلس الإدارة ومدير عام ورئيس تحرير صحيفة 14 أكتوبر الأستاذ محمد عبدالقوي ،وبعد ان انتقلت وزارة العدل في نفس العام من مبناها الواقع في المعلا امام مجمع مطابع مؤسسة 14 أكتوبر إلى مبنى السفارة المصرية في المعلا ، عمل على متابعة نقل مكاتب الصحيفة من مبناها المكون من غرف خشبية وبردين داخل مجمع المطابع بالمؤسسة الى مبنى وزارة العدل السابق وأصبح للصحيفة مكاتب مؤثثة ومجهزة أفضل مما كانت عليه ،وشهدت الصحيفة نقلة نوعية بإدخال مطبعة "الجوس" في طباعتها وتعطيفها وتجهيزها للتوزيع.
…وعندما تعين محمد عبدالقوي رئيساً للجنة الدولة للإعلام (وزير اعلام) إلى جانب منصبه في المؤسسة والصحيفة تقدم بمشروع هيكلة مؤسسة 14 أكتوبر وإنشاء دار الهمداني للطباعة والنشر تتمتع بالاستقلال المالي والإداري وأقترح تعيين أحمد سالم الحنكي مديراًعاماً لدار الهمداني، وفاروق مصطفى رفعت مديراً لتحرير صحيفة "14 أكتوبر" خلفاًله، وصدر بهما قرارا تعيين بهذين المنصبين من رئيس الوزراء .

                         □
  "حاول الحنكي صنع مشهد ثقافي في عدن لايقل عن عواصم الثقافةالعربية
القاهرة،دمشق، بيروت، بغداد،وبامكانيات اقل بكثير ، فتمكن من توظيف المطابع المحلية لمؤسسة 14 اكتوبر (بعد الهيكلة) بعمل نهضوي تمثل في صناعة
الكتاب بصورة منتظمة غير مسبوقة في عدن كما كتب الكاتب والشاعر نجيب مقبل الذي رافق تجربة دار الهمداني خطوة بخطوة في مقال له بعنوان :  
( أربعون عاما من دار الهمداني .. مشروع ثقافي افل قبل أوانه ).
كانت كل إدارة ومطابع المؤسسة قد انتقلت من كريترفي مجمع واحد، إلى المطابع الحكومية بالمعلا ، قبل ذلك بسنوات قليلة ، بما في ذلك مطابع صحيفة (الثوري )الناطقة باسم اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني ، فتجمعت للمؤسسة إمكانيات طباعية كبيرة لأول مرةفي مكان واحد،لكنها لم تعرف كيف تستفيد منها. ومع ان المؤسسة بموجب قانون إنشائها منذ عهد الرئيس الأول قحطان الشعبي،ووزير الثقافة عبدالباري قاسم الذي كان أول من تولى منصب رئيس مجلس الإدارة والمدير العام قد انيط بها حصراً اعمال الطباعة والنشر والتوزيع والاعلان واستيراد الصحف والمجلات والكتب ، وتتمتع باستقلال مالي وإداري، كان ينبغي ان يجعل منها دار طباعة ونشر مرموقة ، إذ لم يكن لها منافس ،إلا أنها لم ترق إلى مستوى حتى دار نشر صغيرة ! 
                         □
 من داخل هذا الواقع البائس ، خاض الحنكي قصة كفاح ينبغي للتاريخ ان يسجلها ويخلدها في سجل أصحاب المشاريع الناجحين "في صنع مشهد ثقافي مغاير ، ولم يكن ذلك المشروع  لينجح لولا توفر مواصفات القائد المثقف والإداري المحنك صاحب المشروع الثقافي الذي تجاوز الواقع وساهم به في تحقيق الرؤية المستقبلية، بتعبير نجيب مقبل . 
 عين لدار الهمداني كادراً من المُستشارين والمساعدين على رأسهم الشاعر العربي الكبير سعدي يوسف ، وعدداً من الشباب الكُتاب في القصة والشعر،وخلال فترة قصيرة أصدرت دارالهمداني نحو 400 عنوان في التاريخ والشعر والفلسفة والتربية الوطنية،إضافة إلى إصدار عدد من الدوريات منها مجلة(المسار) ومجلة (نشوان) المخصصة للأطفال، وبذلك غطت نقصاً في طباعة الكتاب تحتاج إليه عدن، إذ كان على الكاتب إذا اراد أن يطبع عملاً من اعماله ان يشد الرحال اما إلى القاهرة أو دمشق اوبيروت التي كانت ولاتزال مطبعة العرب وعلى بقية العالم العربي أن يقرأ.. وكانت تلك أهم إنجازاته خلال الفترة القصيرة التي تولى فيها إدارة دار الهمداني، إذْ أخرج العديد من الكُتاب مؤلفاتهم التي قبعت سنوات طويلة في الأدراج، حيث وجدت طريقها للنشر بفضل دار الهمداني واحمد سالم الحنكي .

                       3
    رغم ان أحمد سالم الحنكي عاش فترة من حياته المبكرة في عدن قبل الاستقلال، وبعده بعد ان التحق بالجيش وتولى رئاسة تحرير مجلة (الجندي) وإدارةتحرير 14 اكتوبر، إلى أن جذوره تنتمي إلى دثينة وتحديداًمودية ، وانتمى إلى المؤسسة العسكرية،شأن الكثيرين الذين يأتون من الأرياف ولايجدون فرص عمل إلا في الجيش، خاصة أبناء المناطق القبلية المشهورين بطبيعتهم،حُبهم للسلاح والقتال ،مما يؤهلهم الانخراط في المؤسسة العسكرية التي تصقل تلك الطبيعة بالتدريب والانضباط ، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإن عدن كمدينة ومجتمع مدني، لها تأثيرهاالساحر على كل من يقطنها، فتصيب القادم من القرية والبيئة الجبلية والقبلية بشيء من روح المدينة، وثقافتها،ولطافة اهلها، إذ سرعان مايجد نفسه يندمج بالمدينة ويتلبس روحها ، وطبيعة الناس الرقيقة فيها ، ألتحق أحمد بالشرطة المدنية في عدن كما سبق، وبعد الاستقلال بالجيش. ومن معطف هذا الجيش بالذات خرج كُتاب أمثال الكاتب الساخر والمسرحي سعيد عولقي ، صاحب مسرحية ( التركة) والروائي حسين صالح المسيبلي صاحب رواية ( مرتفعات ردفان )وروايات
 أُخرى،والشاعر أحمد سالم عبيد، وعدد من أصحاب الأقلام الجريئةمنهم أحمد سالم الحنكي وشقيقه السفيرعبدالله الحنكي .
                        4
   
   زرته  في مكتبه بعد مرور وقت على تسلمه مهام منصبه في اكتوبر .دخلت عليه المكتب ، لاحظت وجود صورة ملونة في جدار المكتب مُباشرةنصب عينيه ولاتخطئها عين أي زائر، كانت الصورة لسفينة تواجه عاصفةشديدة
،وتتخاطفها أمواج عاتية، سألت أحمد :
 - ماحكاية الصورة ؟!
  ابتسم ابتسامة عريضة وقال :
 - هذه السفينة اشبه بوضع 14 اكتوبر
الحالي ، وعلي أن انتشلهامن الغرق !
  لا ادري كيف استطاع ان يقرأ افكاري  ، لكنه أجاب : 
 - اعرف ان المهمة صعبة لكنها ليست مُستحيلة .
 بدا لي واثقاً مما يقول ، وان لديه خطة ما لماينوي القيام به ، ورأيتُ في كلماته انه ايضاً يملك الارادة والتصميم اللذين يمكنانه من تحقيق ذلك .
                       5
 أدار أحمد سالم 14 اكتوبر عندما كان مدير التحرير، ومن ثم دار الهمداني بعقلية المثقف من ناحية ، وبعقلية العسكري الصارم من ناحية اخرى، وكان ذلك جزءً اصيلاً من شخصيته الفذة ، من ناحية كان ظاهرة ثقافية حقيقية، ومثقفاً بابعاد عميقة، ومطلع استثنائي على الفلسفة المعاصرة، وقاريء ممتاز للأعمال النقدية العربية .ثقافته الواسعة هذه مكنته على أن يكون صديقاًللمثقفين العرب المقيمين في عدن، فكان صديقاً مقرباً للشاعر العربي الكبير سعدي يوسف من العراق ، والشاعر العربي الكبير د جيلي عبدالرحمن من السودان ، والشاعر زكي عمر من مصر ،كما كان على علاقة وطيدة بجامعة عدن واساتذتها الكبار من المثقفين العرب أمثال الدكتور نمير العاني ، وطبع عدداً  كبيرًامن المقالات الفلسفية والأبحاث العلمية لهم في دار الهمداني ، وساعدته هذه العلاقة على إدارة دار الهمداني على أحسن مايكون. وفي نفس الوقت كان صديقاً للمثقفين اليمنيين في عدن أمثال الأستاذين علي وابوبكر باذيب،والشاعرين زكي وفريد بركات ، كماخلق علاقة وثيقة مع جيل المثقفين الشباب أمثال ميفع عبدالرحمن ، ومحمد حسين هيثم ،وكمال الدين محمد،ونجيب مقبل،وعادل ناصرحسن
،وعوض الشقاع، وغيرهم واهتم بطباعة اعمالهم في الدار .
  ومن ناحية أخرى، فقد ساعدته تربيته العسكرية حيث الضبط والربط وتنفيذ القوانين،واحترام الرتبة الأعلى، على اكتساب صفات القائدوصرامة العسكري
،فأدار دار الهمداني بالعقليتين معاً،،مرونة المثقف ورؤيته الشاملة،وعقليةالإداري وصرامته،يساعده طاقم من المثقفين اليمنيين والعرب يشاركونه نفس الرؤية والابعاد فنجح حيث فشل الآخرون .
                        6                         
  لم تغب ثقافة الطفل عن اهتمامات دار الهمداني ومديرها احمد سالم الحنكي فكان حفِيَّاً بإصدار مجلة للأطفال وقد استقطب هو والشاعر العراقي  « سعدي يوسف » ، الأديب والكاتب المتخصص في ادب الأطفال اديب قاسم للقيام بهذه المهمة فكانت مجلة « نشوان" التي قام بتغطية ثلثي موادها : سيناريو « الشيخ والبحر » لأرنست همنجواي.و« العلم في يدي » ترجمة عن كتاب بالٱنجليزية موَجَّه للأطفال ،وقصتين للكاتب الدانماركي هانزكريستيان أندرسن :« بائعة الثقاب الصغيرة »و « الكرة والخذروف ».أغنية ونوتة: كلمات أديب قاسم بعنوان « أنت لي يا وطني »، لحن أحمد محمد ناجي ، نوتة عبدالله حيدرة . وسيناريو « شوربان »،الرسوم الإبداعية لرسامَين عراقيين نصروشقيقته د. عفيفة لُعيبي. كما صدر له عن الدار مسرحية للأطفال بعنوان " الثعلب المكار "رسمها بريشته ، واخراج الشاعر المصري زكي عمر .كما اصدرت الدار عدداً من القصص طبعت في هيئة كتاب لكل قصة،تأليف عدد من كتاب أدب الأطفال . 
 وبعد ان ترك اديب قاسم الدار لخلاف فني مع الشاعر سعدي يوسف اشرف على المطبوعات الخاصة بثقافة الطفل في الدار نجيب مقبل كما ذكر ذلك نجيب يابلي في ( رجال في ذاكرة التاريخ ) المنشور في صحيفة (الايام ) عن أحمد سالم الحنكي .                      
                        7
   قرابة عدة سنوات،لم التق احمد سالم بعد ذلك اللقاء القصير في مكتبه فقد سافرت إلى موسكو لمباشرة عملي في سفارتنا لدى الاتحاد السوفيتي ، ملحقاً إعلامياً بدرجة سكرتير أول في عهد سفيرها صالح أبوبكر بن حسينون ، وهناك توثقت علاقتي بشقيقه عبدالله الحنكي الوزير المفوض في السفارة، وهو مثقف ودبلوماسي مُحنك،كان قبل ذلك القائم باعمال سفارتنا في بيروت ،لكني كنت اتابع اخبار النجاحات التي كان يحققها صديقي أحمد سالم وعلى وجه اخص المكانة التي اكتسبتها (دار الهمداني ) في طباعةالكتاب خلال وقت قصير من إنشائها.كانت تلك الأخبار تسعدني حقا وتفرح كل المثقفين وارباب القلم . هنأته على ذلك عندما التقيته في أول زيارة لي إلى عدن ، توفي والدي رحمه الله في عام1985، فجئت على عجل لتعزية ومواساة والدتي واخواني واخواتي في مُصابنا، وتلقي التعازي من الأهل والأصدقاء ،وكان الزميل أحمد سالم على رأس المُعزين .
                        8
   زرته في مكتبه ، وجدته لايزال يعلق صورة السفينة التي توشك على الغرق ،سألته: 
  - لماذ تستمر في تعليق الصورة ، وقد زال الخطر ؟!!
 نظر إلي نفس تلك النظرة وقال لي : 
 - ليس بعد !!
  اخذني بسيارته ،في جولة شملت العاصمة عدن ، ولحج ، وأبين،  وخلال ذلك أخذ يشرح لي الوضع المتوتر الذي يوشك على الانفجار ، كانت الخلافات تعصف بالقيادة، ونزلت إلى القواعد والشارع ، والكل يتوقع الأسوأ والأيادي على الزناد ...
 كانت عندي فكرة إلى حد ما عما كانت تشهده البلاد من الأخبار المتواترة عن طريق الوفود التي تأتي لزيارة موسكو، وعن طريق الانقسامات التي كنت أراها تدور بين المبعوثين للدراسة ، لكن لم أكن أتصور ان الوضع بهذه الخطورة. كانت البلاد قد شهدت سنوات من الهدوء والاستقرار بعد أن خرجت من سنوات التوتر والصراعات ، كان كل شيء يتغير إلى الأفضل في حياة المواطن المعيشية ، توفرت السلع ، واختفت الاختناقات والطوابير، وسادت البلد حالة من الأمن لم تعرفها من قبل ، وتحسنت علاقتها بالجيران التي لطالما كانت سيئة،وتحركت
 عجلة التنمية،وصار للقطاع الخاص والرأسمال الوطني والمغتربين دور في الاقتصاد الوطني،وسدت الثقوب والثغرات التي أحدثتها سنوات عجاف من التشدد الأيديولجي والاقتصادي التي حرمت الناس من لذة العيش ، وتوقفت الحرب في المناطق الوسطى التي كانت تأكل الأخضر واليابس وتلتهم جزءً كبيراً من ميزانية الدولة،تم توظيفها لتحسين مستوى معيشة المواطنين ..
 دار الهمداني كانت بهذا المفهوم جزءً من المشهد الثقافي الذي شهد هو الآخر تغيرا جوهريا خلال هذه الفترة لصالح الانفتاح على الثقافات الإنسانية وإحياء الثقافة الوطنية ومغادرة منطقة الجمود .. 
 ويبدو ان تلك التغييرات لم تعجب البعض في القيادة ، واعتبروه خروجاً على توجه الدولة الاشتراكي ، وارخاء قبضة الحزب على حياة المجتمع، وكأن الاشتراكية تعني الفقر والجوع ، وليس صنع رفاهية الإنسان..!!
كان الصراع بين توجهين ،، لكن للأسف اتخذ طابعاً شخصياً ، ومن ثم مناطقياً، غاب الحوار، ولم تكن هُناك تقاليد حوار ديمقراطية حتى يحل الخلاف بالطرق السلمية ، فكانت الغلبة للعنف والسلاح. 
                         9
 عدتُ إلى موسكو وانا في غاية القلق ،مما رأيته خلال زيارتي القصيرة ،  وسمعته من صديقي أحمد الحنكي ومن آخرين ، كان ذلك منتصف العام1985..
كانت عدن تجلس على فوهة بركان ، او على قنبلة موقوتة،سرعان ماانفجرت ، كانت رائحتها غريبة، مليئة بالخوف والدم والموت، والخراب ،،
حينها فقط أدركت ماذا كان يعني أحمد سالم  بقوله ( ليس بعد !! )عندما سألته لماذا يحتفظ بصورة السفينة التي توشك على الغرق في مكتبه وقد زال الخطر ؟
  كان يعني سفينة أُخرى ، تواجه خطراً أعظم،  وتحتاج إلى منقذ، لكن كيف يمكن إنقاذ سفينة يعمل أصحابها على خرقها ليل نهار ،، لالينقذوها من ملك يأخذ كل سفينة غصباً ، بل لكي يجرفها الطوفان ؟!!

  .. غرقت السفينة وجرفت إلى القاع الجميع ،، وكان أحمد سالم الحنكي  ، واحداً من ضحايا غرق سفينةالوطن التي عجز الجميع عن إنقاذها وهي تغرق! 
 ألم يكن من الأجدر ان نتحاور حتى نحافظ على السفينة ، بدلاً من ان نطلق الرصاص على بعضنا ونخرق السفينة ؟!
  ..لماذا فتحنا معبراً للمرور نحو الخوف وعدم الثقة ، والحرب والموت..
..ألم يكن من الأجدر أن ندخل من بوابة الحوار الأوسع، والحب ، وإحكام العقل، بدلاً من إمتطاء صهوة السلاح وولوج بوابة الجحيم ؟!
 أسئلة لاتزال بدون جواب ...
 يقول واسيني الأعرج : 
  "هكذا نحن دائما. عندما نلتقي في حاضرنا، نحرقه بالأسئلة عن الماضي ونرهقه ، وعندما يصير هذا الحاضر ماضيا نتشوق له ولأصغر تفاصيله، بحنان كبير. اعتقد اننا أصبحنا مرضى بماضينا وربما بحاضرنا المريض أيضاً."
ولانفكر بالمستقبل !!
والأهم من ذلك هل استوعبنا الدرس ؟!!
                      10
 بعد سنوات من انتهاء الكارثة عدت إلى عدن ..ذهبتُ إلى اكتوبر ، لم يكن أحمد سالم الحنكي هُناك ،،أدركت كم كانت الخسارة كبيرة بفقده، تدهورت المؤسسة إلى أسوأ مماكانت عليه حتى في الأعوام  الأولى من تأسيسها،..ولم يعد من وجود لدار الهمداني ..وئيد المشروع الثقافي الكبير الذي حلم به وسهر على تحقيقه..
  لم يكن الوحيد الذي فقدناه في كارثة يناير ، كان ضمن كوكبة من خيرة المثقفين والإعلاميين الذين فقدهم الوطن،ومن الكادرات الوطنية في مختلف التخصصات مدنيين وعسكريين ....
  عُدتُ إلى عدن...
  لم يكن أحمد سالم هُناك ،، ولازكي بركات ، ولاعبدالله شرف ، ولاجمال الخطيب ، ولاعبدالرحمن بلجون ، ولا إسماعيل الشيباني ، ولا أحمد عبدالرحمن ، ولا فاروق علي أحمد، ولافاروق رفعت ، ولافتحي باسيف، ولا جعفر عيدروس،ولا علي عبدالرحمن خان ...ولا ...ولا ...وكلهم كانوا أصدقائي وزملاء مهنة ورفقة روح ...
 لم أجد احداً منهم ...
 ولم أجد السفينة ،، غرقت في الطوفان ..
  لم يكن هناك (جودي ) لتستوي عليه !!