مدن البحر ...
المكلا ،،،،واحدة من المدن التي سحرتني من المرة الأولى وتعلقت بها ،وعلقت بذاكرتي منذ ذلك اللقاء ولاتزال ..الزيارة الأولى دائما لها وقع خاص،حينها كنت طفلا لم يتعد العاشرة برفقة ابي . والطفولة لها ذاكرة حديدية لاتنسى الأشياء، الأحداث، الأشخاص مهما مر من سنين ، وفات من عمر ...
المكلا ،مدينة بحرية على بحر العرب ، ولعل هذا من أسباب حبي لها من أول نظرة ، أوأول زيارة ،فأنا اعشق البحر ، وكل ما يتعلق بأشياء البحر ، من مدن،سفن ، مراكب ،اصداف ، اسماك ، قواقع، أعشاب ،، شواطيء .أحب البحر إلى درجة اتمنى لوكنت كائنا من كائنات البحرالجميلةالوديعة...سلحفاة مثلا من تلك التي تستوطن بحر شرمة في الديس الشرقية ، او من الدلافين التي تعبرالمحيطات وتعتبرمن أذكى المخلوقات على وجه الأرض ، او فرسا ، او حتى عروس بحر ..! او قنديلا من قناديل البحر ..وحتما لم أكن اتمنى ان اكون من تلك الأنواع المفترسة مثل القرش الأبيض الكبير ،أو قرش النمر ،او اخطبوطا ... ربما بحارا ، اوناخوذة اجوب المحيطات ويكون لي في كل ميناء حبيبة ! اوغواصا مع الكائنات البحرية الملونة والمدهشة
بين الشعب المرجانية .
2
قبل ان تسمى المكلا ، كان لها العديد من الأسماء : الخيصة ، حين كانت قرية للصيادين ، وبندر يعقوب، نسبة إلى الولي المدفون فيها، واخيرا المكلأ . والمكلأ -بالهمزة- يعني الموقع الذي تُكلأ فيه السفن من العواصف البحرية، والرياح الشديدة، وهو ما ينطبق على بحر ساحل المكلا الذي يبتعد عن هيجان البحر العاصف، فهو خالٍ من الزوابع والعواصف،واشتهرت بعد ان تراجع دور الشحر التي كانت الميناء والمدينة الأكثر شهرة في التاريخ بحضرموت .
من الأشياء التي علقت بذاكرتي من الزيارة الأولى ،
شارعها الرئيس ... شارع ترابي طويل ضيق يمتد من السدة باتجاه الشرق قاطعاكل المكلا حتى البحر... يضم اغلب الحوانيت، المقاهي ، المطاعم ، المساجد ،المراكز الحكومية ، المستشفى ، القصر السلطاني ، المستشارية البريطانية، الشرطة ،فندق باعييس اقدم فندق في المكلا ، وفندق شط العرب ، واعدادا كبيرة من الحدادين ...وخلف الشارع البيوت بإطلالتها البيضاء، البهية المطلية بالنورة( الجير ) وهي ممااشتهرت به المكلا وتستخرجه من الجبل وتصهره في افران النورة وتصدره إلى دول الجوار ..
وذلك الشارع العام الترابي كنت ترى فيه سيارة
صهريج ترش الماء حتى لايتناثر الغبار إلى المحلات التجارية، وعربات تجرها الحمير ، ومئات الناس يتدفقون إليه من أحياء المكلا ومن الزوار والمسافرين والعائدين من المهاجر ...
3
المقهى افضل مكان يمكن أن ترصد منه حركة الناس والحياة في الشارع . وهنا تستطيع ان تشرب شائيا احمر لذيذا ..وكان ابي يتخذ له مقعدا في مقهى يقع في ذلك الشارع ، قريبا من مركز الشرطة والميناء حيث يمكننا رصد اغلب الحركة فيه ، ويترصد منه ابي والمسافرون مواعيد رحلات السفن الشراعية المبحرة إلى عدن والكويت وشرق إفريقيا وشرق آسيا حيث يواصلون تغريبتهم الحضرمية .
لكن ادهش ما علق في ذاكرتي من طفولتي وزيارتي الأولى للمكلا ونحن جالسان في ذلك المقهى ، منظر رجل الشرطة الذي يظهر على رأس كل ساعة وبيده قضيب من الحديد يدق به على صحن دائري (طاوة) معلق على عمود امام المركز عدة مرات حسب مايكون عليه التوقيت، فتصدر صوتا اشبه بدقات الساعة ! إختراع حضرمي ...حينها لم تكن هناك في المدينة وسيلة أخرى - خاصة من في الأسواق والشارع -لمعرفة الوقت غير هذه الوسيلة حتى وإن كانت تبدو بدائية لكنها مبتكرة وتفي بالغرض ،،، كانت هناك ساعات حوائط ولكن هذه مكانها في الجوامع والمساجد، وربما قصر السلطان وبيوت بعض الأغنياء ، كان عدد الذين يقتنون ساعات يدوية ليس بالكثير، والكبار في السن كانوا يفضلون ساعات الجيب الأرخص سعرا ...كان من يقتني ساعة معصم يعتبر من المحظوظين .ايامها انتشرت ساعات "ويست اند" السويسرية ، واشتهرت ب"ابو صليب" محليا ، لأن ميناءها يحمل رمز الصليب وكانت من أشهرالماركات العالمية ، وبلغت من الصيت إلى درجة أن أطلقوا على راقصة شرح بدوي مشهورة عندنا في المشرق ( ابو صليب ) رمز الجودة والدقة !
4
ومن الأشياء التي علقت بذاكرة الطفل الذي كنته ولم تبارحها حتى اليوم ، البيت الذي سكنا فيه ..كان يقع على السيف مباشرة قريبا من جمرك المكلا القديمة . ويعود لخال ابي من آل قرنح ، وتحديدا لعم الكاتب العالمي الحائز لجائزة نوبل عبدالرزاق سالم قرنح ، وتوفي العم واسمه عمر في زنجبار وله بنت واحدة تزوجت محفوظ باحشوان وانجبت له محمد محفوظ باحشوان وزير المالية في حكومة علي ناصر محمد.
وكنت إذا ما آويت إلى الفراش في المساء لا ارغب في النوم ، بل لا ارغب سوى الإنصات إلى صوت الموج.. ..كان صوته يهدهد سكون الليل ويرتطم بجدران البيت .. اصوات ذلك العناق بين الامواج وجدران بيت جدي ذاك ظلت رغبة عارمة بداخلي حتى اليوم لم تبارحني ولم أجدها في اي مكان . وكيف لي ان اعثر عليها وقد تغير الكثير؟.. فلم يعد الموج يعانق بيت جدي في المكلا كما كان ، وكانت كثير من عمارات وبيوت المكلا خاصة تلك التي تقع على شاطىء البحر مباشرة تنصت لتلك الموسيقى الازلية. والبحر يبعث برسائله الليلية تلك طوال سنوات دون ان يتلقى اي جواب !! كان البحر ثرثارا ، ولست ادري ماذا كان يقول لكني احببت ثرثرته الليلية تلك وهو يعانق بيت جدي .. بينما تتسلق بقية العمارات والبيوت الجبل ومن هناك تطل على البحر والميناء...
5
ومن الأشياء التي علقت بذاكرتي ، مقبرة يعقوب ، تحتل مساحة كبيرة من وسط المدينة وينتهي عندها الشارع الرئيسي ويمتد منها بالاتجاه المعاكس بحيث يراها سكان المكلا وكل من يمر بذلك الشارع . وكأن أهل المكلا لايطيقون الإبتعاد عن احبتهم الذين فقدوهم وغيبهم الموت .. اوأرادوا أن تذكرهم المقبرة بالموت في كل وقت فاختاروا مكانها هذا لدفن موتاهم..وهنا يرقد ولي الله الشيخ يعقوب الذي تحمل المقبرة إسمه كما حملته المدينة حينا من الدهر...
6
ومما استأثر باهتمامي ، ولازال عالقا في الذاكرة منذ تلك الأيام من نهاية الخمسينيات من القرن الماضي . المساجد ، وأشهرها: الجامع القديم، ومسجد الروضة بناه عمر المشهور ببو علامة بن علي بن شيخ بن أحمد بن علي بن الشيخ أبي بكر بن سالم المتوفَّى في شبام سنة 1278هـ، وجامع السلطان عمر، ومسجد النور، ويميز مساجد المكلا لونها الأبيض البهي ، ومناراتها الصاعدة إلى السماء بجلال وبهاء، والتي تصدح بالآذان للصلوات ، وقبل إختراع الميكرفون كان المؤذنون يصعدون يوميا ولسنوات درجات كثيرة لا اعلم عددهاليصلوا إلى أعلى قمةفي شرفات تلك المآذن ويرفعوا منها الآذان حتى يصل للمصلين إلى أبعد مدى ممكن ، وقبل ذلك الى مملكة السماء .وكانوا يقومون بذلك خمس مرات في اليوم ولأعوام قد تمتد كل العمر مالم يقعدهم مرض او موت !! دون أجر غير طلب الأجر من الله ..
وهل هناك ماهو أعظم أجرا من الله .؟!
تلك كانت بعض المكلا القديمة زمن السلطنةوالسلطان القعيطي ..الزمن الذي كان الناس يصنعون ذاكرةالمدينة ، ويحفظون اسماء احيائها القديمة ، ويحفظون شوارعها ومطاريقهاالقديمة التي لم يكن لها اسماء ..
الناس هم الذين يعطون المدينة والشوارع والاماكن ملامحها ..المدن هي الناس ..
( ولمدن البحر بقية)