فشلت في الحصول على عمل في عدن ، فوجد لي ابي عملا في جعار ..
 على مضض قبلت ، إذ كانت خياراتي محدودة ..
   ركبت الشاحنة . وهي تغادر عدن كنت احس ان روحي تنتزع مني ..ماكدت اعود إليها مدفوعا بالأشواق والأمل ، حتى دفعتني بعيدا . 
  بين عدن وابين المسافة ليست بعيدة ، كالمسافة بين الجسد والروح ..
   تنطلق بي الشاحنة إلى جعار ..تسمى خنفر ايضا نسبة إلى جبل خنفر ،  إلى الشرق من عدن ، وتشتهر مع بقية اراضي دلتا ابين الخصبة بزراعة انواع الفواكه و الخضراوات والحبوب والذرة الشامية والقطن ، تعتبر أبين مع دلتا تبن (سلة عدن الغذائية) ، والإمتداد الحيوي الطبيعي لها مع بقية الجنوب . 
 قيل انها سميت جعار لأن الضباع كانت تكثر فيها ، والجعار في معجم اللغة العربية كل ذي مخلب من السباع ، كما ان الجعار حبل يربط به الرجل إلى وسطه عند نزوله البئر بينما يكون طرفه الآخر مشدودا إلى شيء حتى لايسقط ،او الى رجل آخر يمسك به .
   بين العصر والمغرب تقريبا ، عندما برد جو عدن الحار والرطب قليلا ، سلكت الشاحنة الطريق المعبد المحادي لساحل ابين الشهير .لطالما تغنى بسحره وجماله الشعراء والفنانون ..ومنها تلك الأغنية التي لطالما اعجبتني : "ياساحل ابين بنى العشاق فيك معبد " ، قال شاعرهالطفي جعفر امان إنها اجمل مالحن احمد بن احمد قاسم حين ادلى بهذا الراي في منتصف ستينيات القرن العشرين . يرى الشعراء والفنانون والعشاق في البحر مالايراه الآخرون ! 
   اللونان الازرق ، والأصفر عن يمين وشمال ، لكل لون جماله ، ليست مجرد تنويعات لونية ، بل ملحمة اشبه برحلتي هذه ، لكل منها سحره الغامض .. يقال ان إرم ذات العماد كانت هنا ، لكن لا احد يعلم هل ان كنوزها التي لم يخلق مثلها تنام في اعماق الخليج، ام غمرتها يوماعاصفة من رمال الصحراء . على طول الساحل من عدن ، لمسافة مائة ميل بالقرب من عماد إلى قرب حدود العولقي تمتد بلاد الفضلي .كانت عاصمتها شقرة على ساحل خليج عدن قبل ان تتغيرإلى زنجبار 60 كيلومترا إلى الشرق من عدن .
*****
    وبين الأزرق الشاسع والأصفر الذهبي ، تضيق الطريق الذي تسير فيه الشاحنة .. تركض ارانب تشع عيونها كالجمر ، وافعى كبيرةتقطعه، ربما كانت في رحلة صيد ليلية خاصة عندما دخلنا دلتا ابين . رائحة الأرض الندية كالبتروكور. ..عطر المطر تنزله السماء لإحياء الأرض الطيبة . عقب  إنتقالهم من مستعمرتهم في الهند الشرقية اعتمد الإنجليز على الزراعة في دلتا ابين ، اقاموا شبكةري زراعية بعد إدخال زراعة القطن طويل التيلة سنة 1946 ، وانشأوا مركزا للأبحاث الزراعية في الكود سنة 1955، وحولوا مياه السيول عبر قنوات منظمة ساهمت في تحسين الانتاج الزراعي ..
  تراءى لي منظر الدلتا بمزارعها ، تغطيها النباتات واشجار النخيل والباباي وبراعم القطن والسبول والذرة ..ارض طيبة مفعمة بالجمال والإخضرار ..
  بعد ذلك بسنوات قليلة اجتاحت جموع استقدمت من ابين ولحج وشبوة ، عدن حاملين الفؤوس ، و اخذوا يصرخون : " واجب علينا واجب تخفيض الرواتب واجب " ؟ عن الايام السبع  "المجيدة " اتحدث .كيف يترك الفلاح ارضه وحياته ويتفرغ طوال ايام لعمل يعتقد انه يقرب المدينة من الريف بدل ان يسعى لتحسين حياته لتكون بمستوى حياة المدينة . من فهم تلك الجماهير المهتاجة ان هذا هو المطلوب ..لابد من تدمير المدينة لتصبح ريفاولايرقى الريف إلى مستوى مدينة .؟ من ؟!  ..استولوا على الاراضي وكثرت التعاونيات ومزارع الدولة لكن المنتوج قل في الأسواق وازدادات طوابير الانتظار طولا ... !
  الشاعر الثوري ، لم يستصغ ان يرى اضواء المدينة ،ذات زمن كانت امنيته ان يزورها ذات يوم ، ولماراءها وقارنها بحياته البائسة ، لم تكن له امنية اكبر من إطفاء ذلك النور في عينيها ، فوقف امام الجماهير المهتاجة ذاتها يصرخ  :
"  تسقط عدن الأضواء .."
   تحققت امنيته ، وعدن اليوم تسبح في الظلام ..وبدون اذاعة اوتلفزيون يحمل إلى الجماهير صوت الجياع ، فهل هذا كاف لنحمل هذا الوزر ؟ نحمله كلنا الذين صفقنا له ، حتى إن كنا خرجنامغصوبين ! اوخائفين !

                             ( 2 )

      وصلنا جعار ، افرغ حمالون اشداء حمولة الشاحنة من الدقيق والأرز والسكر في مستودع الدكان ..كان من بينها دقيق في شوالات بيضاء هدية من بيونغ يانغ  ا "البعيدة " بينما  "القريب "يحاصرها ..! 
حاولت ان اساعدهم في حمل الشوالات . بالكاد اقدر على حمل نفسي ، فمنعني صاحب الدكان ، وجعلني اشرف على عدها ..
    في الصباح باشرت عملي ، تناولت إفطاري مع صاحبي الدكان الشقيقين صالح وعلي باضريس المكون من اقراص الخبز الدخن والعسل والقليل من فصوص الثوم ..
لم اجد صعوبة في ممارسة عملي ، شغل الدكاكين يكاد لايختلف ، تساعدني خبرة لاباس بها منذ ان كنت اساعد ابي صغيرا في دكانه . الصعوبة وجدتها في اسماء انواع من الأعشاب التي لم اسمع بها من قبل ، يبدو انها مما تستخدمه نساء ابين عند الولادة والنفاس كما عرفت فيما بعد ، وفي بعض مفردات اللهجة الأبينية التي سرعان ماتغلبت عليها ..

                            (3)
   
 صليت اول جمعة لي في جامع جعار ، ذي المنارة الأسطوانية الحجرية الطويلة ، والنقوش الجميلة التي تعتبر من معالم المدينة الصغيرة .. لايوجد هنا سوى عدد محدود من العمارات متعددةالطوابق .. طرقها في اغلبها ترابية ..الناس يميلون إلى السمرة ، وفي غالبيتهم مزارعون ، اويشتغلون في اعمال لها علاقة بها ..

*****
 جعار لم تكن سوى بلدة ريفية لم تكتسب بعد ملامح المدينة العصرية كماهي عدن . لاوجود لدور سينما ، اولوسائل ترفيه ، لكن توجد مدارس والبنات يذهبن إليها ،  بدأ التعليم في السلطنة الفضلية اهليا منذ ثلاثينيات القرن الماضي ،ثم اصبح حكوميا اونظاميا ، منذ الأربعينيات والخمسينيات ، ماان جاءت سنوات الستينيات حتى كان هناك مدارس ثانوية وبعثات تعليمية إلى عدن ومصر والسودان وبريطانيا وفرنسا على حساب السلطنة . وكان التربيون في البداية يستقدمون من عدن وحضرموت ومصر والسودان لكن في نهاية الستينيات تقريبا كان جميع التربويين من ابناء المنطقة . 
  قبل سنوات التقيت بالسلطان الثائر احمد عبد الله الفضلي في القاهرة، لم يكن نادما على تركه حكم السلطنة والالتحاق بالثورة . اراني صورته مع جمال عبد الناصر الذي امتدحه في خطاب شهير ، وقال انه اقوى من رئيس الوزراء البريطاني ،  قبل سنة تقريبا مات في منفاه الأختياري في القاهرة .. عاش طويلا ورأى مصائر كثيرين لكنه لم يكن شامتا باحد منهم ..

                           (4)
  
   اصداء مؤتمر زنجبار 68 تسيطر على  المتداول من احاديث الناس ..البعض يستعيد بتوجس ماقاله احد قادةاليسار ردا على خصومه " لكم دينكم ولي دين  "  ويعدونه دليلا على توجه النظام نحو. " الشيوعية" رغم إستشهاد صاحبه بآية من القرآن الكريم . كانت تلك الكلمة تنفر الناس وتعني في مفهومهم الإلحاد ، وقد استغل الانجليز هذا النفور ، فكانوا يسمون كل من يعارض اويقاوم وجودهم بانه شيوعي حتى أولئك الأميين الذين لايعرفون ماهي الشيوعية ! لم يختلف الحال كثيرا فتهمة الشيوعبة جاهزة لتصنيف كل معارض حتى يسهل القضاء عليه .. وكان " مقبل " الآن مطاردا من القوات الحكومية مع ثلة من رفاقه الذين وصفوا بالمتمردين على رأسهم سالمين اقطاب حركة 14مايو .
  على تلك الخلفية التي لاتزال طازجة ، كان الناس يترقبون الأحداث القادمة ، ولايدرون في اي اتجاه ستسير، لم يكونوا يعرفون ان الزمن سيجري بخطى واسعة ، ويتحول عما قريب إلى تاريخ يرونه بأم اعينهم قبل ان يروى على صفحات الأيام ، اما للبعض فكان مغامرة يمشون فيها حتى النهاية كأنه قدرهم المكتوب . الخلاصة ان مؤتمر زنجبار لم يرسم نهجا تسير عليه الجمهورية إلى بر الأمان بقدر ما بذر من تلك اللحظة بؤرة كل الصراعات القادمة كما ثبت من تسلسل الأحداث حتى آخر لحظة . 

                          ( 5)
  
    كنت اصغر من ان انغمس في تلك الحوارات ، مفضلا الإستماع ومحاولة الفهم ، ولم اجد الوقت لممارسة متعتي في القراءة ومااظن ان صاحبي الدكان كانا سيقبلان بفتى يضيع وقتهما في مالافائدة منه بدلا من تلبية طلبات الزبائن ..مالهذا استخدماه ولاله يدفعان أجره ، وقد فهم هذا من تلقائه حتى لولم يقولاه . قاله العم علي ، الأقصر قامة ، الممتليء ، بعينيه الطيبتين . وقاله العم صالح الأكثر حزما وصراحة ، بعينيه ايضا دون تصريح . لكنهما متفقان في ادارة تجارتهما وعلى النجاح وهو اتفاق غير مدون ابرمه الشقيقان ، وبصراحة كان كلاهما طيبين معي ، ولا افضل احدا على الآخر ..ولايزالان في ذاكرتي رغم قصر الفترة .. الطيبون لاينسون بسهولة .

                           (  6)
  
  الشيء الوحيد المزعج كان النامس او البعوض ، انه من الكثرة بحيث يصعب مكافحته ، لذغه مؤلم ، موجع ولاتستطيع ان تهنا بنوم .
   اشعل عدة اقراص لولبيةمن مكافح للبعوض حول فراشي ،لونه اخضر ، له قاعدة من القصدير يثبت عليها  ، يصدر دخانا له رائحة تبعده عني مادام مشتعلا ، لكن ماان يستنفذ القرص حتى يستأنف النامس هجومه الكاسح ، ويمتص مابقي في جسمي من دم . قرأت ذات مرة ان ( انثى) البعوض هي التي تمتص الدم .. كيف لهذا الكائن الذي ينتمي إلى الأنوثة ان يكون مصاص دماء بينما (الذكر ) يتغذى على النباتات ورحيق الأزهار ! ،   كل ليلة اعيش تلك المعركةالدمويةالرهيبة واكون دائما الخاسر كما اخسر كل معاركي مع النساء ، حتى انني لم اعد افكر في شيء آخر غير القضاء على كل انثى ... نامس ..كان الأمر صعبا وكل هذه الإبر مصوبة إلي !!
  الأنثى تعيش على دمي ،  ومع ذلك لم اكره النساء ! 
  اما الرجال .. الزعماء والجنرالات فانهم  يحتسون دم الشعوب ! 
   المشكلة اننا لانستطيع التمييز بينهم ...

                             ( 7)

 ( ابين بلاد الحاس والحسحاس والظلم الشديد ) إ 
  لم اعرف معنى بيت الشعر الذي يردده ابناء ابين وغير ابين إلاٌبعد ان عانيت من لذغ النامس فوق سطح دكان باضريس في جعار . 
  وذات يوم ونحن نتناول وجبة إفطارنا ككل صباح ، قال لي العم علي باضريس : 
 - احزم حقيبتك .. انتهى عملك عندنا !
   كانت مفأجاة غير متوقعة ..لاادري هل افرح ام احزن ..
  اجبت مندهشا ، او بالاصح سألت : 
- لماذا؟ .. هل صدرمني شيء اغضبكم مني ؟ 
 - لا
  العم صالح هو ألذي اجاب . 
  - لماذا اذن ؟
  - انت تعرف اننا نحبك ولايمكن ان نستغنى عنك ..
  كان هذا العم علي باضريس ..
 - ولولا والدك ....
 كان هذا العم صالح باضريس .
قاطعته بهلع دون ان يكمل جملته : 
 - ابي .. ماذا به ..هل حدث له مكروه ؟
 - لا ..هو بخير . لاتخف .
 كان هذا جوابهما معا .. 
 - ماهو الامر اذن ..لماذا لاتريداني ؟
 ابوك يريدك  لأنه سيسافر إلى حضرموت ولولا ذلك ، انت تعرف لما تخلينا عنك ، لكن لانستطيع رفض رغبة الوالد ..
 - ولا انا ..
 .. من داخلي كنت فرحا ، فرحاجدا ..كنت اعرف انهالن تتخلى عني ... ! 
  استدعتني باسرع مما كنت اتوقع ..
وهانذا اهرع إليها باسرع مما تتوقعني ..
  انا القادم إليك ، بشغف العشاق ،  فانتظريني ...